قوله تعالى : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } ، لا تختلفوا
قوله تعالى : { فتفشلوا } ، أي : تجبنوا وتضعفوا .
قوله تعالى : { وتذهب ريحكم } ، قال مجاهد : نصرتكم ، وقال السدي : جرأتكم وجدكم . وقال مقاتل بن حيان : حدتكم ، وقال النضر بن شميل : قوتكم . وقال الأخفش : دولتكم . والريح هاهنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد ، تقول العرب : هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد ، قال قتادة : وابن زيد : هو ريح النصر ، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله عز وجل تضرب وجوه العدو ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) . وعن النعمان بن مقرن قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح ، وينزل النصر .
قوله تعالى : { واصبروا إن الله مع الصابرين } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد الله بن محمد ، ثنا معاوية بن عمرو ، ثنا أبو إسحاق ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، وكان كاتباً له قال : كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، انتظر حتى مالت الشمس ، ثم قام في الناس فقال : ( يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ، ثم قال : اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ) .
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ْ } في استعمال ما أمرا به ، والمشي خلف ذلك في جميع الأحوال .
{ وَلَا تَنَازَعُوا ْ } تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها ، { فَتَفْشَلُوا ْ } أي : تجبنوا { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ْ } أي : تنحل عزائمكم ، وتفرق قوتكم ، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله .
{ وَاصْبِرُوا ْ } نفوسكم على طاعة اللّه { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ْ } بالعون والنصر والتأييد ، واخشعوا لربكم واخضعوا له .
وأما طاعة الله ورسوله ، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ؛ فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) . . فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس للهورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر ، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها ! وإنما هو وضع " الذات " في كفة ، والحق في كفة ؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . . ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات " الضبط " التي لا بد منها في المعركة . . إنها طاعة القيادة العليا فيها ، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله ، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . . والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . . أية معركة . . في ميدان النفس أم في ميدان القتال .
( واصبروا ، إن الله مع الصابرين ) . .
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح .
فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم ، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا{[13051]} به ويتكلوا عليه ، ويسألوه النصر على أعدائهم ، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك . فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا ، وما نهاهم عنه انزجروا ، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم .
{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي : قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال ، { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
وقد كان للصحابة - رضي الله عنهم - في باب الشجاعة والائتمار بأمر{[13052]} الله ، وامتثال ما أرشدهم إليه - ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد ممن بعدهم ؛ فإنهم ببركة الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب{[13053]} والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة ، مع قلة عَدَدهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبُوش وأصناف السودان والقبْط ، وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله ، وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت{[13054]} الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم ، إنه كريم وهاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به : أطيعوا أيها المؤمنون ربكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، ولا تخالفوهما في شيء . وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا يقول : ولا تختلفوا فتفرّقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا ، يقول : فتضعفوا وتجبنوا ، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وهذا مثل ، يقال للرجل إذا كان مقبلاً عليه ما يحبه ويُسَرّ به : الريح مقبلة عليه ، يعني بذلك ما يحبه ، ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص :
كمَا حَمَيْناكَ يَوْمَ النّعْفِ مِنْ شَطِبٍ ***والفَضْلُ للْقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ
يعني من البأس والكثرة . وإنما يراد به في هذا الموضع : وتذهب قوّتكم وبأسكم فتضعفوا ، ويدخلكم الوهن والخلل .
وَاصْبِرُوا يقول : اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوّكم ، ولا تنهزموا عنه وتتركوه . إنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ يقول : اصبروا فإني معكم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال : نصركم . قال : وذهبت ريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أُحد .
حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال : ريح أصحاب محمد حين تركوه يوم أُحد .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال : حربكم وجدّكم .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال : ريح الحرب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال : الريح : النصر . لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدوّ ، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قوام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا أي لا تختلفوا فيتفرّق أمركم . وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ فيذهب جدّكم . وَاصْبِرُوا إنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ : أي إني معكم إذا فعلتم ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا قال : الفشل : الضعف عن جهاد عدوّه والانكسار لهم ، فذلك الفشل .