قوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب } يعني : القرآن ، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { يفرحون بما أنزل إليك } من القرآن ، { ومن الأحزاب } يعني : الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم اليهود والنصارى ، { من ينكر بعضه } ، هذا قول مجاهد وقتادة . وقال الآخرون : كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة ، فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله سبحانه وتعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه } ، يعني : مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح : بسم الله الرحمن الرحيم ، قالوا : ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، فأنزل الله عز وجل ، : { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } [ الأنبياء-36 ] { وهم يكفرون بالرحمن } [ الرعد-30 ] . وإنما قال بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرحمن . { قل } ، يا محمد ، { إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب } ، أي : مرجعي .
{ 36 } { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ }
يقول تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أي : متنا عليهم به وبمعرفته ، { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } فيؤمنون به ويصدقونه ، ويفرحون بموافقة الكتب بعضها لبعض ، وتصديق بعضها بعضا وهذه حال من آمن من أهل الكتابين ، { وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } أي : ومن طوائف الكفار المنحرفين عن الحق ، من ينكر بعض هذا القرآن ولا يصدقه .
{ فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } إنما أنت يا محمد منذر تدعوا إلى الله ، { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ } أي : بإخلاص الدين لله وحده ، { إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } أي : مرجعي الذي أرجع به إليه فيجازيني بما قمت به من الدعوة إلى دينه والقيام بما أمرت به .
ويمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معا يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول [ ص ] ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله ، وهو المرجع الأخير ، أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة ؛ ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته . فليقف عندما أنزل عليه ، لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة . أما الذين يطلبون منه آية ، فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ .
( والذين آتيانهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ، ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قل : إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو ، وإليه مآب . وكذلك أنزلناه حكما عربيا ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق . ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله . لكل أجل كتاب . يمحو الله ما يشاء ، ويثبت ، وعنده أم الكتاب . وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك ، فإنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب ) . .
إن الفريق الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه ، يجد في هذا القرآن مصداق القواعد الأساسية في عقيدة التوحيد ؛ كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها ، ودرسها مع الإكبار والتقدير ، وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعا . فمن ثم يفرحون ويؤمنون . والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية وهو فرح الالتقاء على الحق ، وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد له .
( ومن الأحزاب من ينكر بعضه ) .
الأحزاب من أهل الكتاب والمشركين . . ولم يذكر السياق هذا البعض الذي ينكرونه ، لأنه الغرض هو ذكر هذا الإنكار للرد عليه :
( قل : إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به . إليه أدعو ، وإليه مآب ) .
يقول تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } وهم قائمون بمقتضاه { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ } أي : من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ البقرة : 121 ] وقال تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي : إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقا وصدقا مفعولا لا محالة ، وكائنا ، فسبحانه ما أصدق وعده ، فله الحمد وحده ، { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 109 ] .
وقوله : { وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } أي : ومن الطوائف من يكذّب ببعض ما أنزل إليك .
وقال مجاهد : { وَمِنَ الأحْزَابِ } اليهود والنصارى ، من ينكر بعضه ما جاءك من الحق . وكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وهذا كما قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عمران : 199 ] .
{ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ } أي : إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له ، كما أرسل الأنبياء من قبلي ، { إِلَيْهِ أَدْعُو } أي : إلى سبيله أدعو الناس ، { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أي : مرجعي ومصيري .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.