فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَـَٔابِ} (36)

اختلف المفسرون في تفسير الكتاب المذكور فقيل : هو التوراة والإنجيل ، والذين يفرحون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من أسلم من اليهود والنصارى ، وقيل : الذين يفرحون هم أهل الكتابين لكون ذلك موافقاً لما في كتبهم مصدّقاً له ، فعلى الأوّل يكون المراد بقوله : { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } من لم يسلم من اليهود والنصارى ، وعلى الثاني يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يماثلهم ، أو يكون المراد به البعض من أهل الكتابين أي : من أحزابهما ، فإنهم أنكروه لما يشتمل عليه من كونه ناسخاً لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم إلى ما هو موافق لما في الكتابين ، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما ، وقيل : المراد بالكتاب القرآن ، والمراد بمن يفرح به المسلمون ، والمراد بالأحزاب المتحزّبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين واليهود والنصارى ، والمراد بالبعض الذي أنكروه من خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم . واعترض على هذا بأن فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره ، وأجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار ، وقال كثير من المفسرين : إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة ، فأنزل الله { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] ففرحوا بذلك ، ثم لما بين ما يحصل بنزول القرآن من الفرح للبعض والإنكار للبعض صرّح بما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يقول لهم ذلك ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ } أي : لا أشرك به بوجه من الوجوه أي قل لهم : يا محمد إلزاماً للحجة ، ورّداً للإنكار : إنما أمرت فيما أنزل إليّ بعبادة الله وتوحيده ، وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره جميع الملل المقتدية بالرسل . وقد اتفق القرّاء على نصب : { ولا أشرك به } عطفاً على { أعبد } . وقرأ أبو خليد بالرفع على الاستئناف ، وروى هذه القراءة عن نافع { إِلَيْهِ ادعوا } أي : إلى الله لا إلى غيره أو إلى ما أمرت به ، وهو عبادة الله وحده ، والأوّل أولى لقوله : { وَإِلَيْهِ مَآبِ } فإن الضمير لله سبحانه أي : إليه وحده : لا إلى غيره مرجعي .

/خ39