مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَـَٔابِ} (36)

قوله تعالى :{ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب } .

اعلم أن في المراد بكلمة ( الكتاب ) قولين : الأول : إنه القرآن والمراد أن أهل القرآن يفرحون بما أنزل على محمد من أنواع التوحيد والعدل والنبوة والبعث والأحكام والقصص ، ومن الأحزاب الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار من ينكر بعضه ، وهو قول الحسن وقتادة .

فإن قيل : الأحزاب ينكرون كل القرآن .

قلنا : الأحزاب لا ينكرون كل ما في القرآن ، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء ، والأحزاب ما كانوا ينكرون كل هذه الأشياء .

والقول الثاني : أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، وعلى هذا التقدير ففي الآية قولان : الأول : قال ابن عباس : الذين آتيناهم الكتاب . هم الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران ، وثمانية باليمن ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وفرحوا بالقرآن ، لأنهم آمنوا به وصدقوه ، والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين قال القاضي : وهذا الوجه أولى من الأول لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن ، أما إذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة ويمكن أن يقال : إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة ، فلهذا السبب حكى الله تعالى فرحهم به . والثاني : والذين آتيناهم الكتاب اليهود أعطوا التوراة ، والنصارى أعطوا الإنجيل ، يفرحون بما أنزل في هذا القرآن ، لأنه مصدق لما معهم . ومن الأحزاب من سائر الكفار من ينكر بعضه ، وهو قول مجاهد . قال القاضي : وهذا لا يصح ، لأن قوله : { يفرحون بما أنزل إليك } يعم جميع ما أنزل إليه ، ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله : { بما أنزل إليك } لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظتي الكل والبعض عليه ، ولو كانت كلمة «ما » للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريرا وإدخال لفظ البعض عليه نقصا . ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال : { قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب } وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به ، وفيه فوائد : أولها : أن كلمة «إنما » للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى ، وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك . وثانيها : أن العبادة غاية التعظيم ، وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك . وثالثها : أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل ، فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته ، وما يجب ويجوز ويستحيل عليه . ورابعها : أن عبادة الله واجبة ، وهو يبطل قول نفاة التكليف ، ويبطل القول بالجبر المحض . وخامسها : قوله : { ولا أشرك به } وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية ، ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبودا سوى الله تعالى سواء قال : إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية ، أو يزدان واهر وفق ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله التنويه . وسادسها : قوله : { إليه ادعوا } والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته . وسابعها : قوله : { وإليه مآب } وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين .