قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ، أي : محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وقد يكون من دخول الحرم ، يقال : أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم . نزلت في رجل يقال له أبو اليسر ، شد على حمار وحش وهو محرم فقتله .
قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمداً } . اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد لقتل الصيد مع نسيان الإحرام . أما إذا قتله عمداً وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة . هذا قول مجاهد والحسن ، وقال الآخرون : أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا ً لإحرامه فعليه الكفارة ، واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة ، وقال الزهري : على المتعمد بالكتاب ، وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن جبير : لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ ، بل يختص بالعمد .
قوله تعالى : { فجزاء مثل } قرأ أهل الكوفة ويعقوب { فجزاء } منون ، مثل رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة { فجزاء مثل }
قوله تعالى : { ما قتل من النعم } ، معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها ، من حيث الخلقة لا من حيث القيمة .
قوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ، ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : حكموا في بلدان مختلفة ، وأزمان شتى بالمثل من النعم . فحكم حاكمهم في النعامة ببدنه وهي لا تساوي بدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة وهي لا يساوي بقرة . وفي الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشاً ، فدل أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة ، وتجب في الحمام شاة ، وهو كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة ، والقمري ، والدبسي . وروي عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم : أنهم قضوا في حمام مكة بشاة .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر ابن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة .
قوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } ، أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ، ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم .
قوله تعالى : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } . قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر ، المثل من جنسه ، والعدل بالفتح ، المثل من غير جنسه . وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاماً ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوماً ، وله أن يصوم حيث شاء ، لأنه لا نفع فيه للمساكين . وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ، ثم يجعل القيمة طعاماً فيتصدق به ، أو يصوم ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد ، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر ، أو صاع من شعير يوماً . وقال الشعبي والنخعي : جزاء الصيد على الترتيب ، والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير .
قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } أي : جزاء معصيته .
قوله تعالى : { عفا الله عما سلف } ، يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية .
قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } في الآخرة .
قوله تعالى : { والله عزيز ذو انتقام } ، وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيداً متعمداً يسأل : هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن قال نعم ، لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج ، وهو واد بالطائف ، واختلفوا في المحرم ، هل يجوز له أكل لحم الصيد ؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاووس ، وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ، وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ، ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وأبي هريرة ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله . والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن ابن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي ، عن نافع مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حماراً وحشياً ، فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا ، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك ، فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى " . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن حنطب ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم ) ، قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعاً من جابر ابن عبد الله رضي الله عنه .
وإذا أتلف المحرم شيئاً من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض ، أو طائر دون الحمام ، ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ، واختلفوا في الجراد : فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا : هو من صيد البحر ، روي ذلك عن كعب الأحبار ، والأكثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقة ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس : قبضة من طعام .
ثم حرج بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : محرمون في الحج والعمرة ، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل ، وعن المشاركة في القتل ، والدلالة عليه ، والإعانة على قتله ، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله ، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم ، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام .
وقوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أي : قتل صيدا عمدا { ف } عليه { جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي : الإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك ، فيجب عليه مثله ، يذبحه ويتصدق به . والاعتبار بالمماثلة أن { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : عدلان يعرفان الحكم ، ووجه الشبه ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، حيث قضوا بالحمامة شاة ، وفي النعامة بدنة ، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة ، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم ، ففيه مثله ، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته ، كما هو القاعدة في المتلفات ، وذلك الهدي لا بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : يذبح في الحرم .
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } أي : كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين ، أي : يجعل مقابلة المثل من النعم ، طعام يطعم المساكين .
قال كثير من العلماء : يقوم الجزاء ، فيشترى بقيمته طعام ، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره . { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ } الطعام { صِيَامًا } أي : يصوم عن إطعام كل مسكين يوما . { لِيَذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد ، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطيء ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة ، فإنه يضمنها على أي حال كان ، إذا كان إتلافه بغير حق ، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام ، وهذا للمتعمد . وأما المخطئ فليس عليه عقوبة ، إنما عليه الجزاء ، [ هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله . وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية . والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله ، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم ]{[278]}
بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءا بالنهي مختوما بالتهديد مرة أخرى :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره . عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) . .
إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمدا . فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة . . فإذا كان القتل عمدا فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله . فالغزالة مثلا تجزى ء فيها نعجة أو عنزة . والأيل تجزى ء فيه بقرة . والنعامة والزرافة وما إليها تجزى ء فيها بدنة . . والأرنب والقط وأمثالها يجزى ء فيه أرنب ، وما لا مقابل له من البهيمة يجزى ء عنه ما يوازي قيمته . .
ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل . فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هديا حتى تبلغ الكعبة ، تذبح هناك وتطعم للمساكين . أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين ؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد [ خلاف فقهي ] . فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة . مقدرا ثمن الصيد أو البهيمة ، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن ؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين . . أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي . ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال .
وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة :
ففي الكفارة معنى العقوبة ، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديدا كبيرا : لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف :
( عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) .
فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد ، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان ، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام !
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه . وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها . والجمهور على تحريم قتلها أيضًا ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة أم المؤمنين ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فَواسِق يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم{[10374]} الغُراب والحدأة ، والعَقْرب ، والفأرة ، والكلب العَقُور " . {[10375]}
وقال مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جُنَاح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " . أخرجاه . {[10376]}
ورواه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثله . قال أيوب ، قلت لنافع : فالحية ؟ قال : الحية لا شك فيها ، ولا يختلف في قتلها . {[10377]}
ومن العلماء - كمالك وأحمد - من ألحق بالكلب العقور الذئب ، والسَّبْعُ ، والنِّمْر ، والفَهْد ؛ لأنها أشد ضررًا منه فالله أعلم . وقال سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلّها . واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة{[10378]} بن أبي لهب قال : " اللهم سَلِّط عليه{[10379]} كلبك بالشام " {[10380]} فأكله السبع بالزرقاء ، قالوا : فإن قتل ما عداهن فَدَاها كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك .
قال مالك : وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها ، وصغار الملحق بها من السباع العوادي .
وقال الشافعي [ رحمه الله ]{[10381]} يجوز للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه ، ولا فرق بين صغاره وكباره . وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل .
وقال أبو حنيفة : يقتل المحرم الكلب العقور والذئب ؛ لأنه كلب بري ، فإن قتل غيرهما فَدَاه ، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه . وهذا قول الأوزاعي ، والحسن بن صالح بن حيي .
وقال زُفَر بن الهذيل : يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه .
وقال بعض الناس : المراد بالغراب هاهنا الأبقع{[10382]} وهو الذي في بطنه وظهره بياض ، دون الأدرع وهو الأسود ، والأعصم وهو الأبيض ؛ لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن يحيى القَطَّان ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس يقتلهن المحرم : الحية ، والفأرة ، والحدأة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور " .
والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك ؛ لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه .
وقال مالك ، رحمه الله : لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه .
وقال مجاهد بن جَبْر وطائفة : لا يقتله بل يرميه . ويروى مثله عن علي .
وقد روى هُشَيْم : حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه سئل عما يقتل المحرم ، فقال : " الحية ، والعقرب ، والفُوَيْسِقَة ، ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي " .
رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ، والترمذي عن أحمد بن منيع ، كلاهما عن هشيم . وابن ماجه ، عن أبي كريم{[10383]} عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن . {[10384]}
وقوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن أيوب قال : نبئت عن طاوس قال : لا يحكم{[10385]} على من أصاب صيدًا خطأ ، إنما يحكم{[10386]} على من أصابه متعمدًا .
وهذا مذهب غريب عن طاوس ، وهو متمسك بظاهر الآية .
وقال مجاهد بن جبير : المراد بالمتعمد هنا{[10387]} القاصد إلى قتل الصيد ، الناسي لإحرامه . فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه ، فذاك أمره أعظم من أن يكفر ، وقد بطل إحرامه .
رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نَجِيح وليث بن أبي سليم وغيرهما ، عنه . وهو قول غريب أيضًا . والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه . قال الزهري : دل{[10388]} الكتاب على العامد ، وجرت السنة على الناسي ، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ ، كما دل الكتاب عليه في العَمْد ، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف ، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان ، لكن المتعمّد مأثوم والمخطئ غير مَلُوم .
وقوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها : " فجزاؤه مثل ما قتل من النعم " .
وفي قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك ، والشافعي ، وأحمد ، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم ، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي ، خلافًا لأبي حنيفة ، رحمه الله ، حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليًا أو غير مثلي ، قال : وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه ، وإن شاء اشترى به هديًا . والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة ، وفي بقرة الوحش ببقرة ، وفي الغزال بعنز وذكْرُ قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب " الأحكام " ، وأما إذا لم يكن الصيد مثليًا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه ، يحمل إلى مكة . رواه البيهقي . وقوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل ، أو بالقيمة في غير المثل ، عدلان من المسلمين ، واختلف العلماء في القاتل : هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين :
أحدهما : " لا ؛ لأنه قد يُتَّهم في حكمه على نفسه ، وهذا مذهب مالك .
والثاني : نعم ؛ لعموم الآية . وهو مذهب الشافعي ، وأحمد .
واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورة واحدة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا جعفر - هو ابن بُرْقَان - عن ميمون بن مِهْران ؛ أن أعرابيًا أتى أبا بكر قال : قتلت صيدًا وأنا محرم ، فما ترى عليَّ من الجزاء ؟ فقال أبو بكر ، رضي الله عنه ، لأبي بن كعب وهو جالس عنده : ما ترى فيما{[10389]} قال ؟ فقال الأعرابي : أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك ، فإذا أنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر : وما تنكر ؟ يقول الله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به .
وهذا إسناد جيد ، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق ، ومثله يحتمل هاهنا . فبين له الصديق الحكم برفق وتُؤدَة ، لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم ، فأما إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم ، فقد قال ابن جرير :
حدثنا هَنَّاد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وَكِيع بن الجراح ، عن المسعودي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قَبِيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجًا ، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث ، قال : فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي - أو : برح - فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشَّاءه فركب رَدْعه ميتًا ، قال : فَعَظَّمْنا عليه ، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه ، قال : فقص عليه القصة قال : وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْب فضة - يعني عبد الرحمن بن عوف - فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال : ثم أقبل على الرجل فقال : أعمدًا قتلته أم خطأ ؟ قال الرجل : لقد تعمدت رميه ، وما أردت قتله . فقال عمر : ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها . قال : فقمنا من عنده ، فقلت لصاحبي : أيها الرجل ، عَظّم شعائر الله ، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه : اعمد إلى ناقتك فانحرها ، ففعل{[10390]} ذاك . قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : فبلغ عمر مقالتي ، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة . قال : فعلا صاحبي ضربًا بالدرة ، وجعل يقول : أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم ؟ قال : ثم أقبل عليَّ فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا أحل لك اليوم شيئا يحْرُم عليك مني ، قال : يا قبيصة بن جابر ، إني أراك شابّ السن ، فسيح الصدر ، بيّن اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ ، فيفسد الخلقُ السيئ الأخلاقَ الحسنة ، فإياك وعثرات الشباب .
وقد روى هُشَيْم هذه القصة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة ، بنحوه . ورواها أيضًا عن حُصَيْن ، عن الشعبي ، عن قبيصة ، بنحوه . وذكرها مرسلة عن عُمَر : بن بكر بن عبد الله المزني ، ومحمد بن سِيرين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي وائل ، أخبرني أبو جرير البَجَلِيّ قال : أصبت ظَبْيًا وأنا محرم ، فذكرت ذلك لعمر ، فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك . فأتيت عبد الرحمن وسعدًا ، فحكما عليّ بتَيْس أعفر .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا ابن عُيَيْنة ، عن مُخارق ، عن طارق قال : أوطأ أربد ظبيًا فقتلته{[10391]} وهو محرم فأتى عمر ؛ ليحكم عليه ، فقال له عمر : احكم معي ، فحكما فيه جَدْيًا ، قد جمع الماء والشجر . ثم قال عمر : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين ، كما قاله الشافعي وأحمد ، رحمهما الله .
واختلفوا : هل تستأنف{[10392]} الحكومة في كل ما يصيبه المحرم ، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل ، وإن كان قد حكم من قبله الصحابة ، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة ؟ على قولين ، فقال الشافعي وأحمد : يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة{[10393]} وجعلاه شرعًا مقررًا لا يعدل عنه ، وما لم يحكم فيه{[10394]} الصحابة يرجع فيه إلى عدلين . وقال مالك وأبو حنيفة : بل يجب الحكم في كل فرد فرد ، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا ؛ لقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وقوله تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : واصلا إلى الكعبة ، والمراد وصوله إلى الحرم ، بأن يذبح هناك ، ويفرق لحمه على مساكين الحرم . وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة .
وقوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } أي : إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعَم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال ، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام ، كما هو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأحد قولي الشافعي ، والمشهور عن أحمد رحمهم الله ، لظاهر الآية " أو " فإنها للتخيير . والقول الآخر : أنها على الترتيب .
فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة ، فيُقوّم الصيد المقتول عند مالك ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وحماد ، وإبراهيم . وقال الشافعي : يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا ، ثم يشتري به طعام ويتصدق به ، فيصرف لكل مسكين مُدٌ منه عند الشافعي ، ومالك ، وفقهاء الحجاز ، واختاره ابن جرير .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يُطعِم كل مِسْكين مُدَّيْن ، وهو قول مجاهد .
وقال أحمد : مُدّ من حنطة ، أو مدان من غيره . فإن لم يجد ، أو قلنا بالتخيير{[10395]} صام عن{[10396]} إطعام كل مسكين يومًا .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : يصوم مكان كل صاع يومًا . كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه ، فإن الشارع أمر كعب بن عُجْرَة أن يقسم فَرَقًا بين ستة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، والفَرَقُ ثلاثة آصع .
واختلفوا في مكان هذا الإطعام ، فقال الشافعي : محله الحرم ، وهو قول عطاء . وقال مالك : يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد ، أو أقرب الأماكن إليه . وقال أبو حنيفة : إن شاء أطعم في الحرم ، وإن شاء أطعم في غيره .
ذكر أقوال السلف في هذا المقام :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس في قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال : إذا أصاب المحرمُ الصيدَ حكم عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ، ذبحه فتصدق به . وإن لم يجد نظر كم ثمنه ، ثم قُوّم ثمنه طعامًا ، فصام مكان كل نصف صاع يومًا ، قال : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال : إنما أريد بالطعام الصيام ، أنه إذ وجد الطعام وجد جزاؤه .
ورواه ابن جرير ، من طريق جرير .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } إذا{[10397]} قتل المحرم شيئًا من الصيد ، حكم عليه فيه . فإن قتل ظبيًا أو نحوه ، فعليه شاة تذبح بمكة . فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . فإن قتل إبِلا أو نحوه ، فعليه بقرة . فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا . فإن لم يجد صام عشرين يومًا . وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه ، فعليه بدنة من الإبل . فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا . فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وزاد : والطعام مُدٌّ مُدّ تشبَعهم . {[10398]}
وقال جابر الجُعْفي ، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قالوا : إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي . رواه ابن جرير .
وكذا روى ابن جُرَيْج عن مجاهد ، وأسباط عن السُّدِّي أنها على الترتيب .
وقال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد - في رواية الضحاك - وإبراهيم النَّخَعِي : هي على الخيار . وهو رواية الليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . واختار ذلك ابن جرير ، رحمه الله تعالى .
وقوله : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } أي : أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } أي : في زمان الجاهلية ، لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ، ولم يرتكب المعصية .
ثم قال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } أي : ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قال ابن جُرَيْج ، قلت لعطاء : ما { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } قال : عما كان في الجاهلية . قال : قلت : وما { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ؟ قال : ومن عاد في الإسلام ، فينتقم الله منه ، وعليه مع ذلك الكفارة قال : قلت : فهل في العود حَدُّ تعلمه ؟ قال : لا . قال : قلت : فترى حقًا على الإمام أن يعاقبه ؟ قال :
لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله ، عز وجل ، ولكن يفتدي . رواه ابن جرير . {[10399]}
وقيل معناه : فينتقم الله منه بالكفارة . قاله سعيد بن جبير ، وعطاء .
ثم الجمهور من السلف والخلف ، على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ، ولا فرق بين الأولى والثانية{[10400]} وإن تكرر ما تكرر ، سواء الخطأ في ذلك والعمد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : من قتل شيئًا من الصيد خطأ ، وهو محرم ، يحكم عليه فيه كلما قتله ، وإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة ، فإن عاد يقال له : ينتقم الله منك كما قال الله ، عز وجل .
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعًا ، عن هشام - هو ابن حسان - عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس فيمن أصاب صيدًا فحُكم{[10401]} عليه ثم عاد ، قال : لا يحكم عليه ، ينتقم الله منه .
وهكذا قال شُرَيْح ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النَّخَعِي . رواهن ابن جرير ، ثم اختار القول الأول .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي ، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان ، عن زيد أبي المعلى ، عن الحسن البصري ؛ أن رجلا أصاب صيدًا ، فتجوز عنه ، ثم عاد فأصاب صيدًا آخر ، فنزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ }
وقال ابن جرير في قوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } يقول عَزَّ ذكره : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع ؛ لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، له العزة والمنعة .
وقوله : { ذُو انْتِقَامٍ } يعني : أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه .