وقد استجاب له ربه ، فأعطاه فوق الملك المعهود ، ملكاً خاصاً لا يتكرر :
( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب . والشياطين كل بناء وغواص . وآخرين مقرنين في الأصفاد ) .
وتسخير الريح لعبد من عباد الله بإذن الله ؛ لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لإرادة الله . وهي مسخرة لإرادته تعالى ولا شك ، تجري بأمره وفق نواميسه ؛ فإذا يسر الله لعبد من عباده في فترة من الفترات أن يعبر عن إرادة الله سبحانه وأن يوافق أمره أمر الله فيها وأن تجري الريح رخاء حيث أراد فذلك أمر ليس على الله بمستبعد . ومثله يقع في صور شتى . والله سبحانه يقول في القرآن للرسول [ صلى الله عليه وسلم ]( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ، ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ) . .
فما معنى هذا ? معناه أنهم إذا لم ينتهوا فستتجه إرادتنا إلى تسليطك عليهم وإخراجهم من المدينة . وسيتم هذا بتوجيه إرادتك أنت ورغبتك إلى قتالهم وإخراجهم ؛ فتتم إرادتنا بهم عن طريقك . فهذا لون من توافق أمر الله - سبحانه - وأمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإرادة الله وأمره هما الأصيلان . وهما يتجليان في إرادة الرسول وأمره وفق ما أراد الله . وهذا يقرب إلينا معنى تسخير الريح لأمر سليمان - عليه السلام - تسخيرها لأمره المطابق لأمر الله في توجيه هذه الرياح ، الممثل لأمر الله المعبر عنه على كل حال .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } :
يقول تعالى ذكره : فاستجبنا له دعاءه ، فأعطيناه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده فَسَخّرَنَا لَهُ الرّيحَ مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة تَجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً يعني : رخوة لينة ، وهي من الرخاوة ، كما :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، أن نبيّ الله سليمان صلى الله عليه وسلم لما عرضت عليه الخيل ، فشغله النظر إليها عن صلاة العصر حتى تَوَارَتْ بالحِجابِ فغضب لله ، فأمر بها فعُقرت ، فأبد له الله مكانها أسرع منها ، سخر الريح تجري بأمره رُخاء حيث شاء ، فكان يغدو من إيلياء ، ويقيل بقَزْوين ، ثم يروح من قزوين ويبيت بكابُل .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي ) فإنه دعا يوم دعا ولم يكن في مُلكه الريح ، وكلّ بنّاء وغوّاص من الشياطين ، فدعا ربه عند توبته واستغفاره ، فوهب الله له ما سأل ، فتمّ مُلكه .
واختلف أهل التأويل في معنى الرخاء ، فقال فيه بعضهم : نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : تَجْرِي بأَمْرِهِ رُخاءً قال : طَيّبة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فَسَخّرْنا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بأمْره رُخاءً حَيْثُ أصَابَ ) قال : سريعة طيبة ، قال : ليست بعاصفة ولا بطيئة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : رُخاءً قال : الرخاء اللينة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، في قوله : ( رُخاءً حَيْثُ أصَابَ ) قال : ليست بعاصفة ، ولا الهَيّنة بين ذلك رُخاء . وقال آخرون : معنى ذلك : مطيعة لسليمان . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( رُخاءً ) يقول : مُطيعة له .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( تَجْرِي بأَمْرِهِ رُخاءً ) قال : يعني بالرّخاء : المطيعة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( تَجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً ) قال : مطيعة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( رُخاءً ) يقول : مطيعة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( رُخاءً )قال : طوعا .
وقوله : حَيْثُ أصَابَ يقول : حيث أراد ، من قولهم : أصاب الله بك خيرا : أي أراد الله بك خيرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) يقول : حيث أراد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) يقول : حيث أراد ، انتهى عليها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث شاء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : إلى حيث أراد .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه حَيْثُ أصَابَ : أي حيث أراد .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
اقتضت الفاء وترتيب الجمل أن تسخير الريح وتسخير الشياطين كانا بعد أن سأل الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده أن أعطاه هاتين الموهبتين زيادة في قوة ملكه وتحْقِيقاً لاستجابة دعوته لأنه إنما سأل ملكاً لا ينبغي لأحد غيره ولم يسأل الزيادة فيما أعطيه من الملك . ولعل الله أراد أن يعطيه هاتين الموهبتين وأن لا يعطيهما أحداً بعده حتى إذا أعطى أحداً بعده مُلكاً مثل ملكه فيما عدا هاتين الموهبتين لم يكن قد أخلف إجابته .
والتسخير الإِلجاء إلى عمل بدون اختيار ، وهو مستعار هنا لتكوين أسباب صرف الريح إلى الجهات التي يريد سليمان توجيه سفنه إليها لتكون معينة سفنَه على سرعة سيرها ، ولئلا تعاكس وجهه سفنه ، وتقدم في قوله تعالى : { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر } في سورة [ سبأ : 12 ] .
وقرأ أبو جعفر { الرّياحَ } بصيغة الجمع .
وتقدم قوله : { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } في سورة [ الأنبياء : 81 ] .
واللام في { له } للعلة ، أي لأجله ، أي ذلك التسخير كرامَة من الله له بأن جعل تصريف الرياح مقدّراً على نحو رغبته .
والأمر في قوله : { بِأمْرِهِ } مستعار للرغبة أو للدعاء بأن يدعو الله أن تكون الريح متجهة إلى صوب كذا حسب خطة أسفار سفائنه ، أو يرغب ذلك في نفسه ، فيصرف الله الريح إلى ما يلائم رغبته وهو العليم بالخفيّات .
والرُّخاء : اللينة التي لا زعزعة في هبوبها . وانتصب { رُخَاءً } على الحال من ضمير { تَجْرِي } أي تجري بأمره لينة مساعدة لسير السفن وهذا من التسخير لأن شأن الريح أن تتقلب كيفياتُ هبوبِها ، وأكثر ما تهب أن تهب شديدة عاصفة ، وقد قال تعالى في سورة [ الأنبياء : 81 ] : { ولسليمان الريح عاصفة ومعناه : سخرنا لسليمان الريح التي شأنها العصوف ، فمعنى فسخَّرْنَا لهُ } جعلناها له رخاء . فانتصب { عاصفة } في آية سورة الأنبياء على الحال من { الريح } وهي حال منتقلة . ولما أعقبه بقوله : { تجري بأمره } علم أن عصفها يصير إلى لَيْن بأمر سليمان ، أي دعائه ، أو بعزمه ، أو رغبته لأنه لا تصلح له أن تكون عاصفة بحال من الأحوال ، فهذا وجه دفع التنافي بين الحالين في الآيتين .
و { أصَابَ } معناه قصد ، وهو مشتق من الصَّوْب ، أي الجهة ، أي تجري إلى حيث أي جهة قصد السير إليها . حكَى الأصمعي عن العرب : « أَصَابَ الصواب فأخطأ الجواب » أي أراد الصواب فلم يُصب . وقيل : هذا استعمال لها في لغة حِمير ، وقيل في لغة هَجَر .