قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } الآية : قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . وهذا نفي بمعنى النهي . قوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ، أي : فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة ويبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة { ليتفقهوا في الدين } ، يعنى الفرقة القاعدين ، يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام ، فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أنزل بعدهم ، فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم ، وتبعث سرايا أخر ، فذلك قوله : { ولينذروا قومهم } ، وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به ، { إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } لا يعلمون بخلافه . وقال الحسن : هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ، ومعناه : هلا نفر فرقة ليتفقهوا ، أي : ليتبصروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين ، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعلهم يحذرون أن يعادوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار . وقال الكلبي : لها وجه آخر وهو أن أحياء من بني أسد من خزيمة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا المدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فنزل قوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ، أي : لم يكن لهم أن ينفروا كافة ولكن من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين . وقال مجاهد : نزلت في ناس خرجوا في البوادي ابتغاء الخبر من أهلها فأصابوا منهم معروفا ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا ، فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا ، وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، أي : هلا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ويستمعوا ما أنزل بعدهم ولينذروا قومهم ، يعني : الناس كلهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الله ، لعلهم يحذرون بأس الله ونقمته ، وقعدت طائفة يبتغون الخير .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني ، حدثنا عبد اله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين } .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنبأنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " .
والفقه هو معرفة أحكام الدين ، وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ، ففرض العين مثل : علم الطهارة ، والصلاة ، والصوم ، فعلى كل مكلف معرفته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة على كل ملسم " . وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واجب بجب عليه معرفة علمها ، مثل : علم الزكاة إن كان له مال ، وعلم الحج إن وجب عليه . وأما فرض الكفاية فهو : أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا ، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا ، وإذا قام من كل بلد واحد فتعلمه سقط الفرض عن الآخرين ، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث ، روى أبو أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " . قال الشافعي : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة .
{ 122 } { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
يقول تعالى : -منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } أي : جميعا لقتال عدوهم ، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك ، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى ، { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ } أي : من البلدان ، والقبائل ، والأفخاذ { طَائِفَةٌ } تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى .
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم ، فقال : { لِيَتَفَقَّهُوا } أي : القاعدون { فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } أي . ليتعلموا العلم الشرعي ، ويعلموا معانيه ، ويفقهوا أسراره ، وليعلموا غيرهم ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم .
ففي هذا فضيلة العلم ، وخصوصا الفقه في الدين ، وأنه أهم الأمور ، وأن من تعلم علما ، فعليه نشره وبثه في العباد ، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم ، من بركته وأجره ، الذي ينمى له .
وأما اقتصار العالم على نفسه ، وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون ، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه ؟ وأي نتيجة نتجت من علمه ؟ وغايته أن يموت ، فيموت علمه وثمرته ، وهذا غاية الحرمان ، لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما .
وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف ، لفائدة مهمة ، وهي : أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ، ويوفر وقته عليها ، ويجتهد فيها ، ولا يلتفت إلى غيرها ، لتقوم مصالحهم ، وتتم منافعهم ، ولتكون وجهة جميعهم ، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا ، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم ، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب ، فالأعمال متباينة ، والقصد واحد ، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور .
ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين ؛ والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ؛ قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول اللّه - [ ص ] - وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة . مما اقتضى بيان حدود النفير العام - في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية - فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام ، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد ، وقد بلغ من عددهم - بعد تخلف المتخلفين في تبوك - نحواً من ثلاثين ألفاً ، الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين . وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة ؛ وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة ، وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية . . ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء :
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) . .
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية ، وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . . والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية : أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ؛ وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم ، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة .
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري ، واختيار ابن جرير ، وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي ، لا يفقهه إلا من يتحرك به ؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ؛ ولا فقهوا فقههم ؛ ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - [ ص ] - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن ، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة ، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ! ولكن هذا وهم ، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين ؛ ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به ، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس ، وتغليبه على الجاهلية ، بالحركة العملية .
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ؛ مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ؛ ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية " يجددون " بها الفقه الإسلامي أو " يطورونه " - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد ، وردهم إلى العبودية للّه وحده ، بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . . هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ؛ ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين !
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة للّه وحده ، ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ؛ والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده ، واستيحاء شريعته وحدها ، تحقيقاً لهذه الدينونة ، جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية ، وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه ، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة ، بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين ، يجيء فقههم للدين من تحركهم به ، ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي ، يعيش بهذا الدين ، ويجاهد في سبيله ، ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .
فأما اليوم . . " فماذا " . . ? أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده ؛ والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد ؛ والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته ؛ والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد ?
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه ، إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو " تجديده " أو " تطويره ! " في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده ؛ وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه ، وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو " تجديده " أوتطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد ، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة ، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة ! . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ؛ وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .
إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم ؛ والمجتمع المسلم أنشأ " الفقه الإسلامي " . . ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشى ء من الدينونة لله وحده ، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ ، وليس " جاهزا " معدا من قبل ! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة ، ذات حجم معين ، وشكل معين ، وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة ، داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه ، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ؛ ومن ثم " يفصل " لها حكم مباشر على " قدها " . . فأما تلك الأحكام " الجاهزة " في بطون الكتب ؛ فقد " فصلت " من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا . ولم تكن وقتها " جاهزة " باردة ! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ؛ وعلينا اليوم أن " نفصل " مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه ؛ وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها .
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر ، اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ؛ ويمكن من التفقه في الدين حقا . . وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ؛ وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار " تجديد الفقه الإسلامي " أو " تطويره " ! . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ؛ وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعا . وقد بيّنا معنى الكافّة بشواهده وأقوال أهل التأويل فيه ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية وما النفر الذي كرهه لجميع المؤمنين ، فقال بعضهم : هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام ، فلما نزل قوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ انْصَرفوا عن البادية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية . فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفَةٌ قال : ناس مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي ، فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا ، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبتغون الخير ، لِيَتَفَقّهُوا وليسمعوا ما في الناس ، وما أنزل الله بعدهم ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم ، إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال في حديثه : فقال الله : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ خرج بعض وقعد بعض ، يبتغون الخير .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحو حديثه ، عن أبي حذيفة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة ، غير أنه قال في حديثه : ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم ، وقال : ليَتَفَقّهُوا ليسمعوا ما في الناس .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان المؤمنون لينفروا جميعا إلى عدوّهم ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قال : ليذهبوا كلهم ، فلولا نفر من كلّ حيّ وقبيلة طائفة وتخلف طائفة ليتفقهوا في الدين ، ليتفقه المتخلفون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدين ، ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده . فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني عصبة ، يعني السرايا ، ولا يتسروا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا ، وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخر ، فذلك قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ يقول : يتعلمون ما أنزل الله على نبيه ، ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال : هذا إذا بعث نبيّ الله الجيوش أمرهم أن لا يعرّوا نبيه وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذّرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم .
حدثنا الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . الآية ، كان نبيّ الله إذا غزا بنفسه لم يحلّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل العذر ، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه . فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبيّ الله على أصحابه القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم الذي أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرءونهم ، ويفقهونهم في الدين . وهو قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول : إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبيّ الله قاعد ، ولكن إذا قعد نبيّ الله تسرّت السرايا وقعد معه معظم الناس .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين ، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ولكنهم منافقون ، ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون لنفر بعض ليتفقه في الدين ولينذر قومه إذا رجع إليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فإنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين ، أجدبت بلادهم ، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ، ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم . وأنزل الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين ، فردّهم رسول الله إلىَ عشائرهم ، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعلّهُمْ يَحْذَرُونَ .
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك قول ثالث ، وهو ما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال : كان ينطلق من كلّ حيّ من العرب عصابة فيأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدونه من دينهم ويتفقهون في دينهم ، ويقولون لنبيّ الله : ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم قال فيأمرهم نبيّ الله بطاعة الله وطاعة رسوله ، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة . وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا : إن من أسلم فهو مّنا وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليعرّف أباه وأمه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم ، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة .
وقال آخرون : إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وعزّروهم في تخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ . . . إلى : إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ قال ناس من المنافقين : هلك من تخلف فنزلت : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . . . إلى : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ، ونزلت : وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ . . . الآية .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : حدثنا سليمان الأحول عن عكرمة ، قال : سمعته يقول : لما نزلت : إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وَما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ . . . إلى قوله : لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ . . . إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ ، ونزلت : والّذِينَ يُحاجّونَ في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ . . . الآية .
واختلف الذين قالوا عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية وترك النبيّ عليه الصلاة والسلام وحده في المعنيين بقوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ فقال بعضهم : عني به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالوا : معنى الكلام : فهلا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد ليتفقه المتخلفون في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم وذلك قول قتادة ، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه من رواية سعيد بن أبي عروبة . وقد :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ . . . الآية ، قال : ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله . وَليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهمْ يقول : لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قالا : كافة ، ويدعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون منهم : بل معنى ذلك : لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرةُ المتخلفةَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ قال : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : تأويله : وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدا ولكن عليهم إذا سرى رسول الله سرية أن ينفر معها من كلّ قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة . طائفة وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد ، كما قال الله جلّ ثناؤه : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يقول : فهلاّ نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وهذا إلى هاهنا على أحد الأقوال التي رُويت عن ابن عباس ، وهو قول الضحاك وقتادة .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة ، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدوّ قبل هذه الآية بقوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ، ثم عقب ذلك جلّ ثناؤه بقوله : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته وإشخاص غيره عنها ، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم .
وأما قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنْذِرُوا قوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ . فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه ، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم . لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ يقول : لعلّ قومهم إذا هم حذّروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون ، فيؤمنون بالله ورسوله ، حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لأن النفر قد بيّنا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه ، وكان جلّ ثناؤه قال : فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدّينِ علم أن قوله : «ليتفقهوا » إنما هو شرط للنفر لا لغيره ، إذ كان يليه دون غيره من الكلام .
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون معناه : ليتفقه المتخلفون في الدين ؟ قيل : ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة ، وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه . وبعد ، فإنه قال جلّ ثناؤه : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ عطفا به على قوله : لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ ولا شكّ أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها ، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت ، فما وجه إنذرا الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما ؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى ، لكان أحقهما بأن يوصف به الطائفة النافرة ، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ما لم تعاين المقيمة ، ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا من أنها تنذر من حيها وقبيلتها ومن لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك .
كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضاً على الجهاد وتنديداً على المقصرين في شأنه ، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين للغزو . وإذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها ، من أجل ذلك عُقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جُنداً ، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين ، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه ، والآخَرُ يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه ، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسَّاسَة وأولي الرأي المهْتمين بتدبير ذلك السلطان ، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلاً حتى تقلص ، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المُدن التي فتحوها ووكَلوا أمر الدولة إليهم .
وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقاً من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يُذكر عقبها نَفْر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام .
ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذْ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } [ التوبة : 120 ] الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .
وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشىء عن قوله : { مالكم إذا قيل لكم انفروا } [ التوبة : 38 ] ثم عن قوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا } [ التوبة : 120 ] الخ . ومعنى { أن يتخلفوا } هو أن لا ينفروا ، فناسب أن يذكر بعده { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .
والمراد بالنفير في قوله : { لينفروا } وقوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفرَ كلُّهم .
فضمير { ليتفقهوا في الدين } يجوز أن يعود على قوله : { المؤمنون } ، أي ليتفقه المؤمنون .
والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر ، كما اقتضاه قوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ، فهو عام مراد به الخصوص .
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهومٍ من الكلام من قوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } لأن مفهومه وبقيتْ طائفةً ليتفقهوا في الدين ، فأعيد الضمير على ( طائفة ) بصيغة الجمع نظراً إلى معنى طائفة ، كقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] على تأويل اقتتل جمعهم .
ويجوز أن يكون المراد من النفرْ في قوله : { لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } نفْراً آخر غير النفر في سبيل الله ، وهو النفر للتفقه في الدين ، وتكون إعادةُ فعل ( ينفروا ) و ( نَفَر ) من الاستخدام بقرينة قوله : { ليتفقهوا في الدين } فيكون الضمير في قوله : { ليتفقهوا } عائداً إلى { طائفة } ويكون قوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } تمهيداً لقوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } .
وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين . والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة .
والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي ، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي ، أي كونه نهياً جازماً يقتضي التحريم . وذلك أنه كما كان النفْر للغزو واجباً لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجباً لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضاً ، فأفاد مجموع الكلامين أن النفْر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه ، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو . وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل ( انفروا ) ، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير ( انفروا ) .
ولذلك كانت هذه الآية أصلاً في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوباً على الكفاية ، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب . وأشعر نفي وجوب النفْر على جميع المسلمين وإثباتُ إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عدداً من الذين يبقون للتفقه والإنذار ، وأن ليست إحدى الحالتين بأوْلى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر ، وأن البقية باقية على الأصل ، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزُو ، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع ، وأن ذلك سواء . ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة .
والفرقة : الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن ؛ فالقبيلة فرقة ، وأهل البلاد الواحدة فرقة .
والطائفة : الجماعة ، ولا تتقيد بعدد . وتقدم عند قوله : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) .
وتنكير { طائفة } مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية . وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية .
والتفقه : تكلف الفقاهة ، وهي مشتقة من فقه ( بكسر القاف ) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقِهٌ . فالفقه أخص من العلم ، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله : { لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] ، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته ، فقاهة فهو فقيه .
ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه ، أي الفهم في الدين . وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمرٌ دقيق المسلك لا يحصل بسهولة ، ولذلك جاء في الحديث الصحيح « مَن يرد الله به خيراً يفَقِّهْه في الدِين » ، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم .
وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد .
والإنذار : الإخبار بما يتوقع منه شر . والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة . ومنه النذير . وتقدم في قوله تعالى : { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) ، فالإنذار هو الموعظة ، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم ، لأن التخلية مقدمة على التحْلية ، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده . ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطإ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين .
وحذف مفعول يحذرون } للتعميم ، أي يحذرون ما يُحذر ، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات . واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير ، وقد علمت أنه يفيد الأمرين .