قوله تعالى : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } الآية .
يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ .
أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة . فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ ، ولا عن سرية . فلمَّا قدم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - المدينة ، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار ، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة ؛ فنزلت هذه الآية{[18246]} . والمعنى : لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد ، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين ، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول ، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد ، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد ، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف ، ويبلغها للغائبين ، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالان :
أحدهما : أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ومشاهدتهم التنزيل ؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع ؛ عرفوه وحفظوه ، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو ؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار ، والتقدير : فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين ، ولينذروا قومهم ، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى .
والاحتمال الثاني : أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ . والمعنى : فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين{[18247]} ، أي : أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين ، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين ؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر ، والفتح ، والظفر ، لعلهم يحذرون ؛ فيتركوا الكفر والنفاق .
وأما الثاني : وهو أن هذا حكم مبتدأ ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى ، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة ، ثم أمر الجهاد ، وهما عبادتان بالسَّفر ، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر ، فقال : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين ، بل ذلك غيرُ واجب ، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ .
ثم قال : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ } يعني من الفرق الساكنين في البلاد ، طائفة إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين ، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم ؛ فينذروا ويحذروا قومهم ، لكي يرجعوا عن كفرهم ، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم .
فإن قيل : أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان ؟
فالجواب : متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر ؛ وجب عليه السَّفر ، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك ؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة ، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد ، وشرع حادث . وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة ؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ .
قوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } " لولا " تحضيضية ، والمرادُ به الأمر ؛ لأنَّ " لوْلاَ " إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل " هَلاَّ " ؛ لأنَّ " هَلاَّ " كلمتان " هل " وهو استفهام وعرض ؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ : هل تأكلُ ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه ، و " لا " وهو جحد ، ف " هلاَّ " مركب من أمرين : العرض ، والجحد . فإذا قلت : هلا فعلت كذا ؟ فكأنك قلت : هل فعلت . ثم قلت معه " لا " أي : ما فعلت ، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب ، وهكذا الكلام في " لوْلا " لأنك إذا قلت : لوْلاَ دخلتَ عليَّ ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي ، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به ، لو فعل ، وهكذا الكلام في " لوما " ومنه قوله : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } [ الحجر : 7 ] ف " لَوْلاَ " ، و " هَلاَّ " و " لوْمَا " ألفاظ متقاربة ، والمراد بها : الترغيب والتحضيض . و " مِنْهُم " يجوزُ أن يكون صفةً ل " فِرْقَةٍ " ، وأن يكون حالاً من " طَائِفَةٌ " ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها .
وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف . والذي ينبغي أن يقال : إنَّ " مِن كُلِّ فرقةٍ " حال من " طَائفَةٌ " و " مِنْهُم " صفة ل " فِرْقَةٍ " . ويجوزُ أن يكون " مِن كُلِّ " متعلقاً ب " نفر " . وفي الضمير من قوله " ليتفَقَّهُوا " قولان :
أحدهما : أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة .
والثاني : للطائفة القاعدة ، والضَّمير في " رَجَعُوا " عائدٌ على النَّافرة . قال ابنُ العربي ، والقاضي أبو بكرٍ ، والشيخُ أبو الحسن : " إنَّ الطَّائفة ههنا واحد ، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد ، وهو صحيح ، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد ، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر " .
قال القرطبي : " أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له : طائفة قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] أي : نفسين ، بدليل قوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [ الحجرات : 10 ] فجاء بلفظ التثنية ، وأما الضمير في : " اقْتَتلُوا " وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين " .
دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة ، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة يكون اثنين ، أو واحداً ؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً ، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم ، لقوله " وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " وهو عبارة عن أخبارهم . وقوله " لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم ، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع .
قال القاضي : " لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد ؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة ؛ ولأنَّ قوله : " وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " يصجُّ وإن لم يجب القبول ، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة ، وإن لم يلزم القبول ؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف ، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به " .
والجوابُ : أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة ؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً ؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم ، فإن قيل : إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم .
فالجوابُ : أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم ، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة ، وهو المطلوب .
وأمَّا قوله : " وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ " يصحُّ وإن لم يجب القبولُ ؛ فالجوابُ : أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله : " وليُنذِرُوا " بل بقوله : " لعَلَّهُم يَحْذرُون " فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار .
الفقه معرفة أحكام الدِّين ، وهو ينقسمُ إلى فرض عين ، وفرض كفاية ، ففرض العين مثل : علم الطهارة والصلاة والصوم ، فعلى كل مكلف معرفته ، قال عليه الصلاة والسلام " طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ " {[18248]} وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل : علم الزكاة إن كان له مال ، وعلم الحج إن وجب عليه .
وأما فرض الكفاية ، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ؛ فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعاً ، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين ، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث ، قال عليه الصلاة والسلام : " فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم " {[18249]} ، وقال عليه الصلاة والسلام " فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ " {[18250]} وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .