الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} (122)

وقوله سبحانه : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } [ التوبة : 122 ] .

قالتْ فرقة : إِن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكَّاناً ومبعوثين لتعليم الشَّرْع ، لما سمعوا قولَ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأعراب } ، [ التوبة : 120 ] ، أهمَّهم ذلك ، فنفروا إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ خشية أنْ يكونُوا عُصَاةً في التخلُّف عن الغَزْوِ ، فنزلَتْ هذه الآية في نَفْرِهِمْ ذلك ، وقالتْ فرقة : سَبَبُ هذه الآية أن المنافقين ، لما نزلَتِ الآيات في المتخلِّفين ، قالوا : هَلَكَ أَهْلُ البوادِي ، فنزلَتْ هذه الآية مقيمةً لعُذْرِ أهل البوادي .

قال ( ع ) : فيجيء قوله : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأعراب } [ التوبة : 120 ] عمومٌ في اللفظ ، والمراد به في المَعنَى الجمهورُ والأكْثَرُ ، وتجيءُ هذه الآية مبيِّنة لذلك .

وقالتْ فرقةٌ : هذه الآية ناسِخَةٌ لكُلِّ ما ورد من إِلزام الكافَّة النَّفير والقِتَال ، وقال ابنُ عبَّاس ما معناه : أَنَّ هذه الآية مختصَّة بالبعوثِ والسَّرايا والآية المتقدِّمة ثابتةُ الحُكْم مع خروجِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغَزْو .

وقَالَتْ فرقةٌ : يشبه أنْ يكون التفقُّه في الغَزْو وفي السرايا ، لِمَا يَرَوْنَ من نُصْرَةِ اللَّه لدينِهِ ، وإِظهارِهِ العَدَد القليلَ من المؤمنين على الكثير من الكافرين ، وعِلْمِهم بذلك صحَّة دِينِ الإِسلام ومكانَتِهِ قال ( ع ) : والجمهور على أن التفقُّه إِنما هو بمشاهدة رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصُحْبَته ، وقيل غير هذا .

( ت ) وَصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قَالَ : ( لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحَ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا استنفرتم فانفزوا ) ، وقد استنفر رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الناس في غزوة تَبُوكَ ، وأعلن بها حَسَبَ ما هو مصرَّح به في حديث كَعْب بن مالِكٍ في «الصِّحَاح » ، فكان العَتَبُ متوجِّهاً على مَنْ تأخَّر عنه بعد العِلْمِ ، فيظهر واللَّه أعلم ، أنَّ الآية الأولَى باقٍ حكمها ؛ كما قال ابن عباس ، وتكون الثانية ليستْ في معنى الغَزْو ، بل في شأن التفقُّه في الدِّين على الإِطلاق وهذا هو الذي يُفْهَمُ من استدلالهم بالآية علَى فَضْلِ العلْم .

وقد قالت فرقة : إِن هذه الآية لَيْسَتْ في معنى الغَزْو ، وإِنما سببها قبائلٌ مِنَ العرب أصابتهم مجاعةٌ ، فنفروا إلى المدينة لِمَعْنَى المعاشِ ، فكادوا يُفْسِدونها ، وكان أكثرهم غَيْرَ صحيحِ الإِيمانِ ، وإِنما أَضْرَعَه الجُوع ، فنزلَتِ الآية في ذلك ، والإِنذارُ في الآية عامٌّ للكفر والمعاصي ، والحذرِ منها أيضاً ؛ كذلك قال ابن المبارك في «رقائقه » : أخبرنا موسَى بْنُ عُبَيْدَة ، عن محمد بن كَعْب القُرَظِيِّ ، قال : إِذا أراد اللَّه تبارك وتعالَى بِعَبْدٍ خيراً ، جعل فيه ثلاثَ خصالٍ : فقْهاً في الدِّينِ ، وزَهَادةً في الدنيا ، وبَصَّرَهُ بعيوبه . انتهى .