الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{۞وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} (122)

قوله : { وما كان المومنون لينفروا كافة } إلى قوله : { مع المتقين }[ 122 ، 123 ] . المعنى : لم يكن لهم ليفعلوا ذلك ، فظاهره خبر ومعناه نهي{[30238]} ، أي : ما كان لهم أن يفعلوا ذلك ، أي : لا يفعلوه ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث قوما ، ليعلموا الناس الإسلام ، فلما نزل قوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } ، الآية ، رجع أولئك من البوادي إلى النبي عليه السلام ، خشية أن يكونوا ممن تخلف{[30239]} عنه .

فأنزل الله عز وجل ، عذرهم : { وما كان المومنون لينفروا كافة } ، وكره انصرافهم من البادية إلى المدينة ، قال ذلك مجاهد{[30240]} .

ثم قال تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }[ 122 ] ، هلا{[30241]} أتى للخروج من هؤلاء الذين يعلمون الناس { من كل فرقة منهم طائفة }{[30242]} ، ويبقى الباقون ليتفقه أهل البوادي في الدين { ولينذروا قومهم }{[30243]}[ 122 ] ، أي : يخبرونهم بما تعلموا { لعلهم يحذرون }[ 122 ] ، مخالفة أمر الله ، سبحانه .

وقال ابن عباس المعنى : ما كان المؤمنون لينفروا في غزوهم جميعا ، ويتركوا نبيهم عليه السلام ، { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ، يعني : السرايا ، فلما{[30244]} رجعت السرايا ، ونزل بعدهم قرآن ، تعلمه القاعدون من النبي عليه السلام ، قالوا للسرايا : إن الله عز وجل ، قد أنزل على نبيكم عليه السلام ، قرآنا بعدكم/وقد تعلمناه . فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل بعدهم ، ويمضي الآخرون الذين كانوا مقيمين للسرايا ، فذلك قوله : { ليتفقهوا{[30245]} في الدين }{[30246]}

فمعنى الكلام : فهلا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقه المتخلفون{[30247]} في الدين { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } ، أي : ليعلم{[30248]} القاعدون القادمين من السرايا ما تعلموا في مغيبهم ، وهو قول قتادة{[30249]} .

وقال : هذا في الجيوش أمرهم الله [ أن ]{[30250]} لا يُعَرُّا نبيهم عليه السلام ، وأن تقيم طائفة مع رسول الله{[30251]} صلى الله عليه وسلم ، تتفقه في الدين وتنطلق طائفة تدعو قومها{[30252]} إلى الله سبحانه ، فإذا رجعوا علمهم المقيمون ما نزل بعدهم{[30253]} .

ومثل ذلك قال الضحاك{[30254]} .

وعن ابن عباس أيضا : أنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا النبي عليه السلام ، [ على مُضر ]{[30255]} بالسنين{[30256]} أجدبت بلادهم ، فكانت القبيلة منهم تُقبل بأسرها إلى المدينة يعتلون{[30257]} في إقبالهم بالإسلام وليس كذلك ، إنما بهم الجَهد{[30258]} الذي نزل بهم ، فأخبر الله عز وجل ، نبيه{[30259]} عليه السلام ، أنهم ليسوا من المؤمنين ، وأنهم لو كانوا مؤمنين ما أتوا بأجمعهم ، ولكن يأتي

بعضهم يتفقه في الدين ، ويعود فينذر من بقي لعله يحذر ما حرم الله سبحانه ، فإتيانهم بجماعتهم يدل على أنهم إنما أتوا من أجل الجَهد لا من أجل الإيمان{[30260]} .

وقال عكرمة : إنما هو تكذيب للمنافقين ، وذلك أنه لما نزل : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } ، الآية ، قال المنافقون : هلك من تخلف ، فألحقوا من عذره الله{[30261]} في التخلف بمن لم يعذره الله سبحانه ، فأنزل الله عز وجل ، عذرا ثانيا لمن تخلف من الأعراب بعذر ، فقال { وما كان المومنون{[30262]} لينفروا كافة }{[30263]} .

وقال الحسن : المعنى ، للتتفقه{[30264]} الطائفة الغائبة ، بما يؤيدهم{[30265]} الله عز وجل ، من الظهور على المشركين ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم{[30266]} .

أي : يخبر الغائبون في الجهاد الحاضرين ، بما فتح الله عز وجل ، عليهم فيزداد إيمانهم ، وهو اختيار الطبري . قال : تتفقه الطائفة النافرة بما ترى{[30267]} من نصر الله عز وجل ، { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } أي : يخبرونهم بما فتح الله سبحانه عليهم فيحذرونهم أن ينزل بهم بأس الله ، سبحانه{[30268]} .

ف : " قومهم " على هذا القول : من بقي من أهليهم مشركين ، يحذرونهم ليؤمنوا{[30269]} ، وهو قول الحسن{[30270]} .

وهذه الآية دليل على جواز قبول خبر الواحد{[30271]} .

وقد روي : أنها نزلت في أعراب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المدينة فعلوا الأسعار{[30272]} ، وملأوا الطرق بالعذرة فنزلت : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }{[30273]} .


[30238]:انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/475، وإعراب القرآن للنحاس 2/240، وزاد المسير 3/517.
[30239]:في "ر": يخلف، وهو تصحيف.
[30240]:التفسير 377، 378، وجامع البيان 14/566، وعنه نقل مكي، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1910، 1911 والدر المنثور 4/324، بتصرف.
[30241]:معاني القرآن للفراء 1/454، ومجاز القرآن 1/271، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة 193، وإعراب القرآن للنحاس 2/240، وعزاه إلى الأخفش. وينظر: تفسير ابن أبي حاتم 6/1910، وتفسير الرازي 8/232، 233.
[30242]:في تفسير القرطبي 8/186: "الطائفة في اللغة: الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين، وللواحد على معنى نفس طائفة". وفي تفسير ابن أبي حاتم 6/1911، 1912 عن ابن عباس: الطائفة، عصبة. وعن مجاهد، الطائفة: رجل انظر: معاني الطائفة في القرآن في وجوه ونظائر ابن الجوزي 415، 416 وزد عليه توضيح القرطبي في تفسيره 8/187.
[30243]:قال الزمخشري في الكشاف 2/308: "وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمونها من المقاصد الركيكة، ومن التصدر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا، وفشوّ داء الضرائر بينهم وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لاخر، أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله، عز وجل: {لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا} [القصص آية 83].
[30244]:كذا في المخطوطتين، وفي مصادر التوثيق أسفله، هامش 7: فإذا.
[30245]:في الكشاف 2/308: "ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها".
[30246]:صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس 276، وجامع البيان 14/567، 568، وهو الاختيار فيه، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1912، وتفسير ابن كثير 2/400، 401 والدر المنثور 4/322، 323 باختصار بعض ألفاظه.
[30247]:في الأصل: المختلفون، وهو تحريف.
[30248]:في الأصل: ليعلمن، وفوق "النون" رمز: ط.
[30249]:جامع البيان 14/571، بزيادة في لفظه.
[30250]:زيادة من "ر"، وجامع البيان.
[30251]:في "ر"2 رمز: صم صلى الله عليه وسلم.
[30252]:في "ر"، قومهم وطمست "الميم" في الأصل، وأثبت ما في مصادر التوثيق أسفله.
[30253]:جامع البيان 14/568، وتفسير ابن كثير 2/401، بتصرف. وينظر: تفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/291.
[30254]:انظر: في جامع البيان 14/568، وتفسير ابن كثير 2/401.
[30255]:زيادة يقتضيها السياق من مصادر التوثيق ص 3192 هامش 5.
[30256]:أي: بالقحوط السنة: الجدب، يقال أخذتهم السنة إذا أجدبوا وأُقحطوا انظر: اللسان/سنه.
[30257]:تحرفت في المخطوطتين إلى: يقتلون. والتصويت من مصادر التوثيق أسفله، هامش 4. واعتل إذا تمسك بحجة. المصباح / علل.
[30258]:الجهد ما جَهَد الإنسان من مرض أو أمر شاق. انظر: اللسان/جهد.
[30259]:في ر، رمز: صم صلى الله عليه وسلم.
[30260]:صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس 276، 277، وجامع البيان 14/569، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1963، وتفسير ابن كثير 2/401، والدر المنثور 4/223، بتصرف.
[30261]:في "ر": عذر.
[30262]:في الأصل: المؤمنين، وهو سهو ناسخ.
[30263]:جامع البيان 14/570. وزاد المسير 3/516-517 وتفسير ابن كثير 2/401 والدر المنثور 4/323 ولباب النقول 220، مع زيادة ونقص في ألفاظه. وينظر: المحرر الوجيز 3/96.
[30264]:في "ر": ليتفقه.
[30265]:في مصادر التوثيق أسفله: بما يريهم.
[30266]:التفسير 1/435، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/291، وجامع البيان 14/571، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1912، وتفسير ابن كثير 2/401.
[30267]:في الأصل: يرى، وهو تصحيف.
[30268]:انظر: جامع البيان 14/573، ففيه مزيد بيان.
[30269]:انظر: توضيح ذلك في جامع البيان 14/573، وتفسير القرطبي 8/187.
[30270]:القول المروي عن الحسن في هذا الشأن، سلف ذكره فوقه. ومصادر توثيقه بهامشه.
[30271]:انظر: بيان ذلك مفصلا في شرح اللمع للشيرازي 2/588، والمحصول للرازي 4/354-364، ونهاية السول 2/685-689. وخبر الواحد حجة عند مالك وغيره بشروط. ينظر: في ذلك على سبيل المثال: مقدمة ابن القصار 67، وما بعدها، وإحكام الفصول للباجي 329، وما بعدها، وتقريب الوصول إلى علم الأصول لابن جزي 121، وما بعدها، ومفتاح الوصول للشريف التلمساني 11 وما بعدها، وخبر الواحد في التشريع الإسلامي 2/205، وما بعدها.
[30272]:في المخطوطتين: الأسفار، بالفاء، وهو تحريف ناسخ.
[30273]:معاني القرآن للفراء 1/455، وتفسير هود بن محكم الهواري 2/177. وتنظر مرويات أخرى في سبب نزول الآية في أحكام القرآن لابن العربي 2/1030، والمحرر الوجيز 3/96، وزاد المسير 3/516، والبحر المحيط 5/116.