فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} (122)

اختلف المفسرون في معنى : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد ؛ لأن سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو ، كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من الكفار ينفرون جميعاً ويتركون المدينة خالية ، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك ، أي ما صحّ لهم ، ولا استقام أن ينفروا جميعاً ، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرقة ، ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة . قالوا : ويكون الضمير في قوله : { لّيَتَفَقَّهُواْ } عائداً إلى الفرقة الباقية . والمعنى : أن الطائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو ، ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم ، ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو ، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ، ليأخذوا عنه الفقه في الدين ، وينذروا قومهم وقت رجوعهم إليهم . وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد ، وهي حكم مستقلّ بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم ، والتفقه في الدين ، جعله الله سبحانه متصلاً بما دلّ على إيجاب الخروج إلى الجهاد ، فيكون السفر نوعين : الأوّل : سفر الجهاد ، والثاني : السفر لطلب العلم . ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر . والفقه : هو العلم بالأحكام الشرعية ، وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو ، وصرف وبيان وأصول . ومعنى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فهلا نفر ، والطائفة في اللغة : الجماعة . وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين ، وإنذار من لم يتفقه . فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين ، وهما تعلم العلم وتعليمه ، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين ، فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض دينيّ ، فهو كما قلت :

وطالب الدنيا بعلم الدين أي بائس *** كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس

ومعنى : { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } الترجي لوقوع الحذر منهم عن التعريض فيما يجب فعله فيترك ، أو فيما يجب تركه فيفعل .

/خ123