قوله تعالى : { قالت } ، يعني : راعيل ، { فذلكن الذي لمتنني فيه } ، أي : في حبه ، ثم صرحت بما فعلت ، فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } ، أي : فامتنع ، وإنما صرحت به لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهم وقد أصابهن ما أصابها من رؤيته ، فقلن له : أطع مولاتك . فقالت راعيل : { ولئن لم يفعل ما آمره } ، ولئن لم يطاوعني فيما دعوته إليه ، { ليسجنن } ، أي : ليعاقبن بالحبس ، { وليكونا من الصاغرين } ، من الأذلاء . ونون التوكيد تثقل وتخفف ، والوقف على قوله : { ليسجنن } بالنون لأنها مشددة ، وعلى قوله { وليكونا } بالألف لأنها مخففة ، وهي شبيهة بنون الإعراب في الأسماء ، كقوله تعالى : رأيت رجلا ، وإذا وقفت ، قلت : رأيت رجلان بالألف ، ومثله : { لنسفعا بالناصية * ناصية } [ العلق-15 ، 16 ] . فاختار يوسف عليه السلام السجن على المعصية حين توعدته المرأة .
فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر ، وأعجبهن غاية ، وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز ، شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة لذلك ومبينة لحبه الشديد غير مبالية ، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي : امتنع وهي مقيمة على مراودته ، لم تزدها مرور الأوقات إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا .
ولهذا قالت له بحضرتهن : { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه ، فعند ذلك اعتصم يوسف بربه ، واستعان به على كيدهن
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها ، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول . فقالت قولة المرأة المنتصرة ، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها ؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها ؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى :
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب !
( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) . .
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام - تريد أن تقول : إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها ! - ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط ، لا ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء :
ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين !
فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مّن الصّاغِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن ، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتنّ أيديكنّ ، هو الذي لمتنني في حبي إياه وشغف فؤادي به ، فقلتنّ : قد شغف امرأة العزيز فتاها حبّا { إنا لنراها في ضلال مبين } . ثم أقرّت لهنّ بأنها قد راودته عن نفسه ، وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حقّ ، فقالت : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، مما راودته عليه من ذلك . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قالت : { فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، تقول : بعد ما حلّ السراويل استعصى ، لا أدري ما بدا له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، أي : فاستعصى .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، يقول : فامتنع .
وقوله : { لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَننّ وَلَيَكُونا مِنَ الصّاغِرِينَ } ، تقول : ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه { ليسجننّ } ، تقول : ليحبسنّ في السجن ، وليكونا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن ، ولأهيننه . والوقف على قوله : { ليسجننّ } ، بالنون لأنها مشددة ، كما قيل : { لَيُبَطّئَنّ } .
وأما قوله : { وَلَيَكُونا } ، فإن الوقف عليه بالألف ، لأنها النون الخفيفة ، وهي شبيهة نون الإعراب في الأسماء ، في قول القائل : رأيت رجلاً عندك ، فإذا وقف على الرجل قيل : رأيت رجلاً ، فصارت النون ألفا ، فكذلك ذلك في : { وليكونا } ، ومثله قوله : { لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ } ، الوقف عليه بالألف لما ذكرت ، ومنه قول الأعشى :
وَصَلّ على حِينِ العَشِيّاتِ وَالضّحَى *** وَلا تعْبُدِ الشّيْطانَ وَاللّهَ فاعْبُدَا
{ قالت فذلكُنّ الذي لُمتنّني فيه } أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتنني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه . { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فامتنع طلبا للعصمة ، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانه عريكته . { ولئن لم يفعل ما آمره } أي ما آمر به ، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف . { ليُسجننّ وليكونا من الصاغرين } من الأذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغرا وصغارا والصغير من صغر بالضم صغرا . وقرئ " ليكونن " وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف ك " نسفعاً " على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين .
قال الطبري : المعنى : فهذا { الذي لمتنني فيه } ، أي هذا الذي قطعتن أيديكن بسببه هو الذي جعلتنني ضالة في هواه ، والضمير عائد على يوسف في { فيه } ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف ، والضمير عائد على الحب ، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه .
ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة واستنامت إليهن في ذلك إذ قد علمت أنهن قد عذرنها ، و { استعصم } معناه : طلب العصمة وتمسك وبها وعصاني ، ثم جعلت تتوعده وهو يسمع بقولها : { ولئن لم يفعل } إلى آخر الآية .
واللام في قوله : { ليسجنن } لام القسم ، واللام الأولى{[6674]} هي المؤذنة بمجيء القسم ، والنون هي الثقيلة والوقف عليها بشدها ، و { ليكوناً } نونه هي النون الخفيفة ، والوقف عليه بالألف ، وهي مثل قوله : { لنسفعاً }{[6675]} [ العلق : 15 ] ومثلها قول الأعشى : [ الطويل ]
وصلّ على حين العشيات والضحى*** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
وقرأت فرقة «وليكونن » بالنون الشديدة . و { الصاغرين } الأذلاء الذين لحقهم الصغار .
الفاء في { فذلكن } فاء الفصيحة ، أي إن كان هذا كما زعمتُنّ ملكاً فهو الذي بلَغكن خبره فلمتنني فيه .
و { لمتنني فيه } ( في ) للتعليل ، مثل " دخلت امرأةٌ النار في هرة " . وهنالك مضاف محذوف ، والتقدير : في شأنه أو في محبته .
والإشارة ب ( ذلكن ) لتمييز يوسف عليه السّلام ، إذ كُنّ لم يرينَه قبلُ . والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرّفاته غير تلك الصلة ، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتتان به فعلمت أنهن قد عذرنها . والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها .
واستعصم : مبالغة في عصم نفسه ، فالسين والتاء للمبالغة ، مثل : استمسك واستجمع الرأي واستجاب . فالمعنى : أنه امتنع امتناع معصوم ، أي جَاعلاً المراودة خطيئة عصم نفسه منها .
ولم تزل مصممة على مراودته تصريحاً بفرط حبها إياه ، واستشماخاً بعظمتها ، وأن لا يعصي أمرها ، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد ، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهاباً له .
وحذف عائد صلة { ما آمره } وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل : أمرتك الخير . . .
والسجن بفتح السين : قياس مصدر سجَنه ، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه . ولم أره في كلامهم بفتح السين إلا في قراءة يعقوب هذه الآية . والسجن بكسر السين : اسم للبيت الذي يسجن فيه ، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه . وقد تقدم قولها آنفاً : { إلا أن يُسجن أو عذابٌ أليم } [ سورة يوسف : 25 ] .
والصاغر : الذليل . وتركيب { من الصاغرين } أقوى في معنى الوصف بالصّغار من أن يقال : وليكونن صاغراً ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة ( 67 ) ، وقوله : { وكونوا مع الصادقين } في آخر سورة براءة ( 119 ) .
وإعداد المُتّكأ لهن ، وبَوحُها بسرّها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتنّ أيديكنّ، هو الذي لمتنني في حبي إياه وشغف فؤادي به، فقلتنّ: قد شغف امرأة العزيز فتاها حبّا {إنا لنراها في ضلال مبين}. ثم أقرّت لهنّ بأنها قد راودته عن نفسه، وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حقّ، فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ}، مما راودته عليه من ذلك... عن قتادة، قوله: {فاسْتَعْصَمَ}، أي: فاستعصى...
عن ابن عباس، قوله: {فاسْتَعْصَمَ}، يقول: فامتنع... وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَننّ وَلَيَكُونا مِنَ الصّاغِرِينَ}، تقول: ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه {ليسجننّ}، تقول: ليحبسنّ في السجن، وليكونا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن، ولأهيننه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَالَتْ فذلكن} ولم تقل فهذا وهو حاضر، رفعاً لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئاً بحاله واستبعاداً لمحله، ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهنّ: عشقت عبدها الكنعاني. تقول: هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتنني فيه. تعني: أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتنان به...
الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها.. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان...
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، عظم ذلك عليها فجمعتهن {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن} فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها. فإن قيل: فلم قالت: {فذلكن} مع أن يوسف عليه السلام كان حاضرا؟ والجواب عنه من وجوه:
الأول: قال ابن الأنباري: أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس.
والثاني: وهو الذي ذكره صاحب «الكشاف» وهو أحسن ما قيل: إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني، فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني: أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة.
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}.
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئا عن تلك التهمة... ثم قال: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما قالت لهن امرأة العزيز؟ فقيل: {قالت فذلكن} أي الفتى العالي الرتبة جداً {الذي لمتنني فيه}. ولما علمت أنهن عذرنها، قالت مؤكدة استلذاذاً بالتهتك في حبه: {ولقد} أي أقول هذا والحال أني والله لقد تحقق أني {راودته عن نفسه} أي لأصل إليه بما أريد {فاستعصم} أي فأوجد العصمة والامتناع عليّ فاشتد اعتصامه، وما أنا براجعة عنه؛ ثم توعدته وهو يسمع لِيَلين، فقالت لهن مؤكدة لأن حال حبها يوجب الإنكار لأن تفعل ما يؤذي المحبوب: {ولئن لم يفعل} أي هذا الفتى الذي قام عذري عندكن فيه {ما أمره} أي أمري {ليسجنن} أي ليمنعن من التصرف بالحبس بأيسر سعي مني. ولما كان عزمها على السجن أقوى من العزم على إيقاع الصغار به، أكدته بالنون الثقيلة وقالت: {وليكونا} بالنون الخفيفة {من الصاغرين} أي الأذلاء، أو أن الزيادة في تأكيد السجن لأنه يلزم منه إبعاده، وإبعاد الحبيب أولى بالإنكار من إهانته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} أي حينئذ قالت لهن ما يعلم شرحه من قرينة الحال، لما جاء في التنزيل من إيجاز وإجمال: إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن، وما أكبرتن في أنفسكن، وما فعلتن بأيديكن، وما قلتن بألسنتكن، فذلكن هو الأمر البعيد الغاية الذي لمتنني فيه، وأسرفتن في عذلي عليه، إذ قلتن من قبل ما قلتن، فالمشار إليه بكاف البعد هو أمر لومهن لها، أو يوسف البعيد في حقيقته البديع في صورته عما تصورونه به، فما هو عبراني أو كنعاني مملوك، وخادم صعلوك، قد شغف مولاته المالكة لرقه حبا وغراما، فهي تراوده عن نفسه ضلالا منها وهياما، بل هو أكبر من ذلك وأعظم، وهو ملك روحاني، تجلى في شكل إنساني، أوتي من روعة الجمال ما خلب ألبابكن في الوهلة الأولى من ظهوره لكن، فما قولكن في أمري معه وافتناني به، وإنما ترعرع في داري، وبلغ أشده واستوى بين سمعي وبصري، فأنا أشاهده في قعوده وقيامه، ويقظته ومنامه، وطعامه وشرابه، وحركته وسكونه، وأخلو به في ليلي ونهاري، فأراه بشرا سويا، إنسيا لا جنيا، وجسدا لا ملكا روحانيا، فأتراءى له في زينتي، وأعرض على نظره ما ظهر وما خفي من محاسني، فيعرض عنها احتقارا، فأتصباه بكل ما أملك من كلام عذب يخلب اللب، ولين قول وخشوع صوت يرقق القلب، فلا يصبو إليه، وأمد عيني إلى محاسنه جامعة فيهما كل ما يكنه قلبي من صبابة وشوق وخلاعة، مع فتور جفن، وانكسار طرف، وطول ترنيق وتحديق، فلا يرفع إلي طرفا، ولا يميل نحوي عطفا، بل تتجلى فيه الروح الملكية بأظهر مجاليها، والعبادة الإلهية بأكمل معانيها، أمثل هذا الملك القاهر يسمى عبدا طائعا، ومثل هذه المرأة المقهورة تسمى سيدة مالكة، تأمر بل تشير فتطاع، وينكر عليها أن تراود فترد، ثم تريد إظهار سلطانها فتعجز؟ لقد انكشفت القناع، فلا أمر لمن لا يطاع {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشؤوا عليها، كأنه يطلب مزيد الكمال منها...
{ولئن لم يفعل ما آمره} به، أقسم لكن آكد الإيمان، ولتسمع ذلك منه الأذنان {ليسجنن وليكونا من الصاغرين} أي الأذلة المقهورين، تعني أن زوجها العزيز يعاقبه بما تريد من إلقائه في السجن وهو المدير له المتولي لأمره، ومن جعله كغيره من العبيد بعد تكريم مثواه وجعله كولده، وهذا أشد مما أنذرته أولا إذ قالت لزوجها عند التقائهما به لدى الباب: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم} هنالك أنذرته أحد العقابين: سجن غير مؤكد، أو عذاب أليم نكرة غير معرف، قد يكون ذلك السجن المطلق بأخف صورة وأقلها، والعذاب المنكر بأهون أنواعه وألطفها، فذاك بحبسه في حجرة من الدار، وهذا بلطمه يحتدم بها ما في خديه من الاحمرار، وهنا أنذرته الجمع بينهما، وأكدت السجن بالقسم وبنون التوكيد الثقيلة، وفسرت العذاب بالصغار الذي تأباه الأنفس الكبيرة، واكتفت فيه بالنون الخفيفة وهو أشق على مثل يوسف من العذاب الأليم بالأعمال الشاقة، لأنها أهون على كرام الناس من الهوان والصغار باحتقار النفس، وفعله صغر كتب، وأما صغر كضخم فهو خاص بصغر الجسم، ومن الأول قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
وفي هذا التهديد من ثقة هذا المرأة بسلطانها على زوجها الوزير الكبير على علمه بأمرها، واستعظامه لكيدها، ما حقه أن يخيف يوسف من تنفيذ إرادتها، ويثبت عنده عدم غيرته عليها، كما هو شأن كثير من الوزراء المترفين، ولا سيما العاجزين عن حصان أزواجهن، والمحرومين من نعمة الأولاد منهن، وماذا فعل يوسف وما قال وقد علم أن هذه المرأة الماكرة قد عيل صبرها، وهتكت سترها، وكاشفت نسوة كبار بلدها بما تسر وما تعلن من أمرها؟ ورأى أنهن تواطأن معها على كيدها، وراودنه عن نفسه كما راودته عن نفسها، وهو تواطؤ لا قبل لرجل به، إلا بمعونة ربه وحفظه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى: قالت: فذلكن الذي لمتني فيه. فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب! (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم).. ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام -تريد أن تقول: إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها!- ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط، لا ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين! فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تبرير الانحراف: وهنا جاء دور امرأة العزيز لتدافع وتبرر علاقتها المنحرفة بيوسف التي عرضتها لهجوم هؤلاء النسوة، {قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فإذا كنتن قد فقدتنّ شعوركن وإراداتكن وعقولكنَّ أمام النظرة الأولى لهذا الملاك الجميل، فما حال المرأة التي تعيش معه في البيت في كل أوقاتها، في خلوة كاملة، توحي لها بكل إغراء الحرية، أمام إغراء الجمال، فهل عليّ لوم إن فعلت ما فعلت، أو ثارت عواطفي تجاهه، إنها التجربة الصعبة التي لا مثيل لها، فالنيران تلهب مشاعري وأحاسيسي وغرائزي كالجحيم، دون أن أتمكن من إطفائها، بل أعاني الشعور بالحقارة أمام نظرته المتعفّفة الورعة المتعالية عن الإغراء التي ترفض كل هذا الجمال الذي أقدّمه له، وتستهين به، وتحتقره، كما يثير فيّ الرغبة التي تشتد أمام الامتناع من جهةٍ أخرى. يوسف بين ضغوط الإغراء والتهديد بسجنه وربما شعرت أن حديثها يضعها في موقف الضعف، فكيف يمتنع هذا العبد عليها، وهي السيدة المالكة له، المسيطرة عليه، وكيف يرفضها وهي التي تساقط كل الرجال تحت أقدامها؟ ولهذا أرادت أن تستعرض قوتها أمامه، وأمامهنّ، لئلا يحتقرن موقعها منه فقالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ} من الخضوع لرغباتي وشهواتي، {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ} بما أملكه من تأثيرٍ على زوجي وعلى أولي الأمر، يتيح لي الضغط لإدخاله السجن حيث يشعر بحقارة موقعه، ويعرف حقيقة قدره، فيقف عند حدوده، ولا يتمرّد على أسياده، ولا يتعالى على رغباتهم في وقفة عزٍّ وكبرياء. وشعر يوسف بأنه محاصر بهذا الجمال المتنوع بين امرأة العزيز التي تدعوه إلى نفسها في الليل والنهار بكل ما تملكه من أساليب الإغراء والإغواء، بهدف إثارة غريزته وشهوته، وبين هؤلاء النسوة اللاتي عرفنه في هذا اللقاء، وبدأن يراودنه عن نفسه، بطريقة خفيّةٍ أو معلنةٍ، وربما يلاحقنه في المستقبل ليؤثرن عليه، وقد يحاولن الضغط عليه بتهديده بطريقة أو بأخرى، بالسجن أو غيره، كما ذكرت امرأة العزيز... فماذا يفعل؟ إنه يخشى على نفسه أن يميل إليهن، ويسقط في التجربة أخيراً، لأن القدرة على المقاومة قد تضعف وتتلاشى أمام ضغوط الإغراء، ونداء الغريزة. اللجوء إلى الله إن يوسف بشرٌ كبقية البشر، يتأثر بما يتأثرون به، ويستجيب لما يستجيبون له، ولولا رعاية الله وعصمته له، لانقاد لها في ما دعته إليه ولكنه ها هو يستعين بالله، في هذا الموقف كما استعان به في الموقف السابق، ويريد له أن ينقذه الآن، كما أنقذه من قبل، إنه يفضّل كل مصائب الدنيا وآلامها، على موقف معصية لربه، ولهذا لجأ إلى الله وصرخ بكل قلبه، في دعاءٍ خاشع حارٍ مبتهل، وبروحية العبد الذي تحضر كل مشاعره وأحاسيسه، ويتحرك كل عقله وإرادته، طلباً للنجاة من ملاحقة الشيطان له، الذي يريد إسقاط عفته وأمانته وإرادته، ويبعده عن محبة الله، إنه ينشد الخلاص من هذا الحصار الشهوانيّ الغريزيّ الذي يعرض عليه الجمال المتنوع بكل كنوزه...