وكل هذا بقضاء اللّه وقدره ، حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي ، فلهذا قال : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } أي : لهدينا الناس كلهم ، وجمعناهم على الهدى ، فمشيئتنا صالحة لذلك ، ولكن الحكمة ، تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } أي : وجب ، وثبت ثبوتًا لا تغير فيه .
{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } فهذا الوعد ، لا بد منه ، ولا محيد عنه ، فلا بد من تقرير أسبابه من الكفر والمعاصي .
وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل ، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله ؛ وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم :
( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها . ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . .
ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقا واحدا . هو طريق الهدى ، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها ، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب ؛ أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة . لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة ، يملك معها الهدى والضلال ؛ ويختار الهداية أو يحيد عنها ؛ ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة ، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود . ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة ، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلََكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَوْ شِئْنَا يا محمد لاَتَيْنَا هؤلاء المشركين بالله من قومك وغيرهم من أهل الكفر بالله هُدَاهَا يعني : رشدها وتوفيقها للإيمان بالله وَلَكِنْ حَقّ القَوْلُ مِنّي يقول : وجب العذاب مني لهم ، وقوله لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ منَ الجِنّة والنّاسِ أجمَعِينَ يعني من أهل المعاصي والكفر بالله منهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَوْ شِئْنا لاَتَيْنا كُلّ نَفْسٍ هُداها قال : لو شاء الله لهدى الناس جميعا ، لو شاء الله لأنزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وَلَكِنْ حَقّ القَوْلُ مِنّي حقّ القول عليهم .
{ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له . { ولكن حق القول مني } ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وذلك تصريح بعدم إيمانهم لعدم المشيئة المسبب عن سبق الحكم بأنهم من أهل النار ، ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله : { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } .
ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجمعين بأن يلطف بهم لطفاً يؤمنون به ويخترع الإيمان في نفوسهم ، هذا مذهب أهل السنة ، وقال بعض المفسرين تعرض عليم آية يضطرهم بها إلى الإيمان .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول بعض المعتزلة ، إلا أن من أشرنا إليه من المفسرين لم يقدر قدر القول ولا مغزاه ولذلك حكاه ، والذي يقود المعتزلة إلى هذه المقالة أنهم يرون أن من يقدر على اللطف بإنسان حتى يؤمن ولا يفعل فإن ذلك ليس من الحكمة ولا من الأمر المستقيم ، والكلام على هذه المسألة يطول وله تواليفه ، و { الجنة } الشياطين .
اعتراض بين القول المقدر قبل قوله { ربنا أبصَرْنا وسمِعنا } [ السجدة : 12 ] وبين الجواب عنه بقوله { فذوقوا بما نَسِيتم } [ السجدة : 14 ] فالواو التي في صدر الجملة اعتراضية ، وهي من قبيل واو الحال .
ومفعول فعل المشيئة محذوف على ما هو الغالب في فعل المشيئة الواقع شرطاً استغناء عن المفعول بما يدل عليه جواب الشرط . والمعنى : لو شئنا لجبلنا كل نفس على الانسياق إلى الهدى بدون اختيار كما جبلت العجماوات على ما ألهمت إليه من نظام حياة أنواعها فلكانت النفوس غير محتاجة إلى النظر في الهدى وضده ، ولا إلى دعوة من الله إلى طريق الهدى ، ولكن الله لما أراد أن يَكل إلى نوع الإنسان تعمير هذا العالم ، وأن يجعله عنواناً لعلمه وحكمته ، وأن يفضله على جميع الأنواع والأجناس العامرة لهذا العالم ؛ اقتضى لتحقيق هذه الحكمة أن يخلق في الإنسان عقلاً يدرك به النفعَ والضرّ ، والكمال والنقص ، والصلاح والفساد ، والتعمير والتخريب ، وتنكشف له بالتدبر عواقب الأعمال المشتبهة والمموّهة بحيث يكون له اختيار ما يصدر عنه من أجناس وأنواع الأفعال التي هي في مكنته بإرادة تتوجه إلى الشيء وضده ، وخلق فيه من أسباب العمل وآلاته من الجوارح والأعضاء إذا كانت سليمة فكان بذلك مستطيعاً لأن يعمل وأن لا يعمل على وفاق ميله واختياره وكسبه . وهذا المعنى هو الذي سماه الأشعري بالكسب وبالاستطاعة وتكفل له بإعانته على ما خُلق له من الإدراك يدعوه إلى ما يريده الله منه من الهدى والصلاح في هذا العالم بواسطة رسل من نوعه يبلغون إليه مراد ربهم فطرهم على الصفات الملكية وجعلهم وسائط بينه وبين الناس في إبلاغ مراد ربهم إليهم . ووعده الناس بالجزاء على فعل الخير وفعل الشر بما فيه باعث على الخير ورادع عن الشر .
وقد أراد الله أن يفضل هذا النوع بأن يجعل منه عُمّاراً لعالم الكمال الخالد عالم الروحانيات فجعل لأهل الكمال الديني مراتب سامية متفاوتة في عالم الخلد على تفاوت نفوسهم في ميدان السبق إلى الكمالات ، وجعل أضداد هؤلاء عمّاراً لهُوة النقائص فملأ منهم تلك الهوة المسماة جهنم .
فهذا معنى قوله { ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين } البالغ من الإيجاز مبلغ الإعجاز ، إذ حذف معظم ما أريد بحرف الاستدراك الوارد على قوله { ولو شئنا لآتينا كل نفس هُدَاها } ؛ فإن مقتضى الاستدراك أن يقدر : ولكنا لم نشأ ذلك بل شئنا أن نخلق الناس مختارين بين طريقي الهدى والضلال ، ووضعنا لهم دواعي الرجاء والخوف ، وأريناهم وسائل النجاة والارتباك بالشرائع قال تعالى : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] أي : الطريقين ، وحققنا الأخبار عن الجزاءين بالوعد والوعيد بالجنة وجهنم فلأمْلأنّ جهنم بأهل الضلال من الجِنَّة والناس أجمعين ، فدخل هذا في قوله ( تعالى ) : { حَقّ القول منّي لأملأنّ جهنم من الجِنَّة والنَّاس أجْمَعين } بما يشبه دلالة الاقتضاء ، وقد أومأ إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله خلق الجنة وخَلَق لها مِلأْها وخلق النار وخلق لها مِلأْها » . وإنما اختير الاقتصار في المنطوق به الدال على المحذوف على شق مصير أهل الضلال لأنه الأنسب بسياق الاعتراض إثْر كلام أهل الضلالة في يوم الجزاء ، ولأنه أظهر في تعلق مضمون جملة الاعتراض بمضمون اقتراحهم ، أي لو كان إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا الصالحات مقتضى لحكمتنا لكنا جبلناهم على الهدى في حياتهم الدنيا فكانوا يأتون الصالحات بالقَسر والإلجاء . فالمراد { القول } ما أوعد الله به أهل الشرك والضلال .
و { الجِنَّة } : الجِنّ وهم الشياطين .
وجعل جمهور المفسرين قوله ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هُدَاها } إلى آخره جواباً موجهاً من قبل الله تعالى إلى المجرمين عن قولهم { ربّنا أبصرنا } [ السجدة : 12 ] الخ .
ووجود الواو في أول هذا الكلام ينادي على أنه ليس جواباً لقول المشركين يومئذ فهم أقل من أن يجعلوا أهلاً لتلقي هذه الحكمة بل حقهم الإعراض عن جوابهم كما جاء في آية سورة المؤمنين ( 106 108 ) : { قالوا ربنا غَلَبَتْ علينا شقوتُنا وكنّا قوماً ضالّين ربنا أخرجنا منها فإنْ عدنا فإنّا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا تُكَلّمون } ولأنه لا يلاقي سؤالهم لأنهم سألوا الرجوع ليعملوا صالحاً ولم يكن كلامهم اعتذاراً عن ضلالهم بأن الله لم يؤتهم الهدى في الحياة الدنيا ، وإنما هذا بيان من الله ساقه للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ليحيطوا علماً بدقائق الحكمة الربانية .
وعدل عن الإضافة { حَقَّ القولُ مِني } فلم يقل : حقَّ قولي ، لأنه أريد الإشارة إلى قول معهود وهو ما في سورة ص ( 85 ) : { لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } أي حق القول المعهود . واجتلبت { مِن } الابتدائية لتعظيم شأن هذا القول بأنه من الله . وعدل عن ضمير العظمة إلى ضمير النفس لإفادة الانفراد بالتصرف ولأنه الأصل ، مع ما في هذا الاختلاف من التفنن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو شئنا لآتينا} لأعطينا {كل نفس} فاجرة {هداها} يعني بياتها.
{ولكن حق القول مني} وجب العذاب مني.
{لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} كفار الإنس والجن جميعا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلَوْ شِئْنَا" يا محمد "لاَتَيْنَا "هؤلاء المشركين بالله من قومك وغيرهم من أهل الكفر بالله "هُدَاهَا" يعني: رشدها وتوفيقها للإيمان بالله "وَلَكِنْ حَقّ القَوْلُ مِنّي" يقول: وجب العذاب مني لهم.
وقوله: "لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ منَ الجِنّة والنّاسِ أجمَعِينَ" يعني من أهل المعاصي والكفر بالله منهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي لو شئنا لآتينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم الاختيار لذلك لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما لم نعلم منهم كون ذلك الاختيار.
{ولكن حق القول مني لأملأن جهنم} أي لكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم، ويحدث ما يستوجبون جهنم، وهو ما علم منهم أنهم يختارون الرد والتكذيب.
{لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} في هذه الآية دلالة أنه قد عصم ملائكته عن عمد ما يستوجبون به جهنم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها "ومعناه الإخبار عن قدرته انه يقدر على إلجائهم إلى الإيمان بأن يفعل أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بتوحيد الله، لكن ذلك يبطل الغرض بالتكليف، لأن المقصود استحقاق الثواب، والإلجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} على طريق الإلجاء والقسر، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون البصراء، ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقا واحدا. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب؛ أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال؛ ويختار الهداية أو يحيد عنها؛ ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراض بين القول المقدر قبل قوله {ربنا أبصَرْنا وسمِعنا} [السجدة: 12] وبين الجواب عنه بقوله {فذوقوا بما نَسِيتم} [السجدة: 14] فالواو التي في صدر الجملة اعتراضية، وهي من قبيل واو الحال.
ومفعول فعل المشيئة محذوف على ما هو الغالب في فعل المشيئة الواقع شرطاً استغناء عن المفعول بما يدل عليه جواب الشرط. والمعنى: لو شئنا لجبلنا كل نفس على الانسياق إلى الهدى بدون اختيار كما جبلت العجماوات على ما ألهمت إليه من نظام حياة أنواعها فلكانت النفوس غير محتاجة إلى النظر في الهدى وضده، ولا إلى دعوة من الله إلى طريق الهدى، ولكن الله لما أراد أن يَكل إلى نوع الإنسان تعمير هذا العالم، وأن يجعله عنواناً لعلمه وحكمته، وأن يفضله على جميع الأنواع والأجناس العامرة لهذا العالم؛ اقتضى لتحقيق هذه الحكمة أن يخلق في الإنسان عقلاً يدرك به النفعَ والضرّ، والكمال والنقص، والصلاح والفساد، والتعمير والتخريب، وتنكشف له بالتدبر عواقب الأعمال المشتبهة والمموّهة بحيث يكون له اختيار ما يصدر عنه من أجناس وأنواع الأفعال التي هي في مكنته بإرادة تتوجه إلى الشيء وضده، وخلق فيه من أسباب العمل وآلاته من الجوارح والأعضاء إذا كانت سليمة فكان بذلك مستطيعاً لأن يعمل وأن لا يعمل على وفاق ميله واختياره وكسبه... وتكفل له بإعانته على ما خُلق له من الإدراك يدعوه إلى ما يريده الله منه من الهدى والصلاح في هذا العالم بواسطة رسل من نوعه يبلغون إليه مراد ربهم فطرهم على الصفات الملكية وجعلهم وسائط بينه وبين الناس في إبلاغ مراد ربهم إليهم. ووعده الناس بالجزاء على فعل الخير وفعل الشر بما فيه باعث على الخير ورادع عن الشر.
وقد أراد الله أن يفضل هذا النوع بأن يجعل منه عُمّاراً لعالم الكمال الخالد عالم الروحانيات فجعل لأهل الكمال الديني مراتب سامية متفاوتة في عالم الخلد على تفاوت نفوسهم في ميدان السبق إلى الكمالات، وجعل أضداد هؤلاء عمّاراً لهُوة النقائص فملأ منهم تلك الهوة المسماة جهنم.
فهذا معنى قوله {ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين} البالغ من الإيجاز مبلغ الإعجاز، إذ حذف معظم ما أريد بحرف الاستدراك الوارد على قوله {ولو شئنا لآتينا كل نفس هُدَاها}؛ فإن مقتضى الاستدراك أن يقدر: ولكنا لم نشأ ذلك بل شئنا أن نخلق الناس مختارين بين طريقي الهدى والضلال، ووضعنا لهم دواعي الرجاء والخوف، وأريناهم وسائل النجاة والارتباك بالشرائع قال تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] أي: الطريقين، وحققنا الأخبار عن الجزاءين بالوعد والوعيد بالجنة وجهنم فلأمْلأنّ جهنم بأهل الضلال من الجِنَّة والناس أجمعين، فدخل هذا في قوله (تعالى): {حَقّ القول منّي لأملأنّ جهنم من الجِنَّة والنَّاس أجْمَعين} بما يشبه دلالة الاقتضاء، وقد أومأ إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله خلق الجنة وخَلَق لها مِلأْها وخلق النار وخلق لها مِلأْها». وإنما اختير الاقتصار في المنطوق به الدال على المحذوف على شق مصير أهل الضلال لأنه الأنسب بسياق الاعتراض إثْر كلام أهل الضلالة في يوم الجزاء، ولأنه أظهر في تعلق مضمون جملة الاعتراض بمضمون اقتراحهم، أي لو كان إرجاعهم إلى الدنيا ليعملوا الصالحات مقتضى لحكمتنا لكنا جبلناهم على الهدى في حياتهم الدنيا فكانوا يأتون الصالحات بالقَسر والإلجاء. فالمراد {القول} ما أوعد الله به أهل الشرك والضلال.
و {الجِنَّة}: الجِنّ وهم الشياطين.
وجعل جمهور المفسرين قوله ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هُدَاها} إلى آخره جواباً موجهاً من قبل الله تعالى إلى المجرمين عن قولهم {ربّنا أبصرنا} [السجدة: 12] الخ.
ووجود الواو في أول هذا الكلام ينادي على أنه ليس جواباً لقول المشركين يومئذ فهم أقل من أن يجعلوا أهلاً لتلقي هذه الحكمة بل حقهم الإعراض عن جوابهم كما جاء في آية سورة المؤمنين (106 108): {قالوا ربنا غَلَبَتْ علينا شقوتُنا وكنّا قوماً ضالّين ربنا أخرجنا منها فإنْ عدنا فإنّا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا تُكَلّمون} ولأنه لا يلاقي سؤالهم لأنهم سألوا الرجوع ليعملوا صالحاً ولم يكن كلامهم اعتذاراً عن ضلالهم بأن الله لم يؤتهم الهدى في الحياة الدنيا، وإنما هذا بيان من الله ساقه للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ليحيطوا علماً بدقائق الحكمة الربانية.
وعدل عن الإضافة {حَقَّ القولُ مِني} فلم يقل: حقَّ قولي، لأنه أريد الإشارة إلى قول معهود وهو ما في سورة ص (85): {لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} أي حق القول المعهود. واجتلبت {مِن} الابتدائية لتعظيم شأن هذا القول بأنه من الله. وعدل عن ضمير العظمة إلى ضمير النفس لإفادة الانفراد بالتصرف ولأنه الأصل، مع ما في هذا الاختلاف من التفنن.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} كما أعطيناها سمعها وبصرها وعقلها وشعورها، ليكون الهدى حالةً تكوينيةً في الذات، لا حالةً إراديةً في الخط والحركة، ليكون الناس بأجمعهم مؤمنين صالحين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين)... إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء اختيارهم، ولذلك فهم مستحقّون للعقاب، ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنّم منهم.
ولعلّ الجملة الشديدة القاطعة أعلاه إشارة إلى أن لا تتصوّروا أنّ رحمة الله الواسعة تمنع من عقاب المجرمين الفسقة والظالمين، وأن لا تغترّوا بآيات الرحمة وتعدّوا أنفسكم بمأمن من العذاب الإلهي، فإنّ لرحمته موضعاً، ولغضبه موضعاً.