قال محمد بن كعب القرظي : لما قالوا : " ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " رد عليهم بقوله : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " يقول : لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد " ولكن حق القول مني " الآية ، ذكره ابن المبارك في ( رقائقه ) في حديث طويل . وقد ذكرناه في ( التذكرة ) . النحاس : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " في معناه قولان : أحدهما : أنه في الدنيا . والآخر : أن سياق الكلام يدل على أنه في الآخرة ، أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا " ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " أي حق القول مني لأعذبن من عصاني بنار جهنم . وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم لعادوا ، كما قال تعالى : " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " [ الأنعام : 28 ] . وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب . وتأويل المعتزلة : ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة ، لكن لا يحسن منه فعله ؛ لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره . وقالت الإمامية في تأويلها : إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحدا ، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم ، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها . قالوا : بل الواجب هداية المعصومين ، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله . وفي جواز ذلك منع ؛ لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان . وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين . وأقرب ما لهم في الجواب أن يقال : فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء والإجبار والإكراه ، فصار يؤدي ذلك إلى مذهب الجبرية ، وهو مذهب رذل عندنا وعندكم ، فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع اختيارا لا جبرا . قال الله تعالى : " لمن شاء منكم أن يستقيم " {[12662]} [ التكوير : 28 ] ، وقال : " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " {[12663]} . ثم عقب هاتين الآيتين بقوله تعالى : " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " [ التكوير : 29 ] . فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم ، ونفي أن يشاؤوا إلا أن يشاء الله{[12664]} ؛ ولهذا فرطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق{[12665]} بمشيئة الله تعالى ، فقالوا : الخلق مجبورون في طاعتهم كلها ، التفاتا إلى قوله : " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " [ التكوير : 29 ] . وفرطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد ، فقالوا : الخلق خالقون لأفعالهم ، التفاتا منهم إلى قوله تعالى : " لمن شاء منكم أن يستقيم " [ التكوير : 28 ] . ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية ، وخبر الأمور أوساطها . وذلك أن أهل الحق قالوا : نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه ، وهو أنا ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته وإرادته ولا مقرونة بقدرته ، وبين حركة الاختيار إذا حرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش ، ومن لا يفرق بين الحركتين : حركة الارتعاش وحركة الاختيار ، وهما موجودتان في ذاته ومحسوستان في يده بمشاهدته وإدراك حاسته - فهو معتوه في عقله ومختل في حسه ، وخارج من حزب العقلاء . وهذا هو الحق المبين ، وهو طريق بين طريقي الإفراط والتفريط . و :
كلا طرفي قصدِ الأمورِ ذميمُ{[12666]}
وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سموا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا ، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز ، وهو قوله سبحانه : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " {[12667]} [ البقرة : 286 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.