قوله تعالى : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً الذين يتربصون بكم } ، ينتظرون بكم الدوائر ، يعني : المنافقين .
قوله تعالى : { فإن كان لكم فتح من الله } ، يعني : ظفر وغنيمة .
قوله تعالى : { قالوا } ، لكم .
قوله تعالى : { ألم نكن معكم } على دينكم في الجهاد ، كنا معكم فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة .
قوله تعالى : { وإن كان للكافرين نصيب } ، يعني دولة وظهورا على المسلمين .
قوله تعالى : { قالوا } ، يعني : المنافقين للكافرين .
قوله تعالى : { ألم نستحوذ عليكم } ، والاستحواذ : هو الاستيلاء والغلبة ، قال الله تعالى : { استحوذ عليهم الشيطان } [ المجادلة :19 ] أي : استولى وغلب ، يقول : ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ونطلعكم على سرهم ، قال المبرد : يقول المنافقون للكفار : ألم نغلبكم على رأيكم .
قوله تعالى : { ونمنعكم } ، ونصرفكم .
قوله تعالى : { من المؤمنين } ، أي : عن الدخول في جملتهم وقيل : معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ، ونمنعكم من المؤمنين ؟ أي : ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأمورهم ، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين .
قوله تعالى : { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } ، يعني : بين أهل الإيمان وأهل النفاق .
قوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } ، قال علي : في الآخرة ، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم : أي حجة ، وقيل : ظهوراً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } أي : ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها ، وتنتهون إليها من خير أو شر ، قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم . { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } فيظهرون أنهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم ، وليشركوهم في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم .
{ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } ولم يقل فتح ؛ لأنه لا يحصل لهم فتح ، يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة ، بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر ، حكمة من الله . فإذا كان ذلك { قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي : نستولي عليكم { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : يتصنعون عندهم بكف أيديهم عنهم مع القدرة ، ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في تفنيدهم وتزهيدهم في القتال ، ومظاهرة الأعداء عليهم ، وغير ذلك مما هو معروف منهم .
{ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة ، ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .
{ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } أي : تسلطا واستيلاء عليهم ، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين ، ودفعٍ لتسلط الكافرين ، ما هو مشهود بالعيان . حتى إن [ بعض ]{[246]} المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة ، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم ، بل لهم العز التام من الله ، فله{[247]} الحمد أوّلًا وآخرًا ، وظاهرًا وباطنًا .
ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين ، فيرسم لهم صورة زرية منفرة ؛ وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه ؛ ويمسكون العصا من وسطها ، ويتلوون كالديدان والثعابين :
( الذين يتربصون بكم . فإن كان لكم فتح من الله ، قالوا : ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ فالله يحكم بينكم يوم القيامة . ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) . .
وهي صورة منفرة . تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر ، وما يتربصون بها من الدوائر وهم - مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون : حينئذ :
ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف : - أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم ! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم !
( وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ ) . .
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم ؛ وخذلوا عنهم وخلخلوا الصفوف ! !
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين . في قلوبهم السم . وعلى ألسنتهم الدهان ! ولكنهم بعد ضعاف ؛ صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين . . وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين .
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول [ ص ] بتوجيه ربه في مسألة المنافقين ، هي الإغضاء والإعراض ، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم ؛ في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين ! فإنه يكلهم هنا إلى حكم الله في الآخرة ؛ حيث يكشف الستار عنهم ، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين :
( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) . .
حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت ؛ ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور .
ويطمئن الذين آمنوا بوعد من الله قاطع ؛ أن هذا الكيد الخفي الماكر ، وهذا التآمر مع الكافرين ، لن يغير ميزان الأمور ؛ ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين :
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة . حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل .
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال . وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين .
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب ، لأنه ليس فيه تحديد .
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد . . أما بالنسبة للدنيا ، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا . ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق :
إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع : أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ؛ وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ، ونظاما للحكم ، وتجردا لله في كل خاطرة وحركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة . . فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . .
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها !
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك ، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين ، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ؛ ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون !
ففي " أحد " مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول [ ص ] وفي الطمع في الغنيمة . وفي " حنين " كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل ! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . . نعرفه أو لا نعرفه . . أما وعد الله فهو حق في كل حين .
نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . . ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة ، هي استكمال حقيقة الإيمان ، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . . إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح ، وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا . فأما إذا بعثت الهمة ، وأذكت الشعلة ، وبصرت بالمزالق ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . . فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق !
كذلك حين يقرر النص القرآني : أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا . . فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ؛ والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا ؛ وفي حياتها واقعا وعملا وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . . ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء ؛ وألا نطلب العزة إلا من الله .
ووعد الله هذا الأكيد ، يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى ، التي لاتضعف ولا تفنى . . وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . . ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية ، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا .
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان . . إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابته ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . . ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن " حقيقة " الكفر تغلبه ، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . . لأن حقيقة أي شيء أقوى من " مظهر " أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان !
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . . ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . .
{ الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوَاْ أَلَمْ نَكُنْ مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوَاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ } الّذينَ ينتظرون أيها المؤمنون بكم . { فإنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ } يعني : فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوّكم ، فأفاء عليكم فيئا من المغانم . { قَالُوا } لكم { ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } نجاهد عدوّكم ، ونغزوهم معكم ، فأعطونا نصيبا من الغنيمة ، فإنا قد شهدنا القتال معكم . { وَإنْ كانَ للكافرينَ نَصيبٌ } يعني : وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ منكم بإصابتهم منكم . { قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } يعني : قال هؤلاء المنافقون للكافرين : { ألَمْ نسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } : ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين ، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم ، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا . { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني : فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة ، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه . { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } يعني : حجة يوم القيامة ، وذلك وعد من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين ، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة ، بأن يقولوا لهم : أن ادخلوا مدخلهم ، ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار فيجمع بينكم وبين أوليائنا ، فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا ؟ فذلك هو السبيل الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { فإنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ } قال : المنافقون يتربصون بالمسلمين ، فإن كان لكم فتح قال : إن أصاب المسلمون من عدوّهم غنيمة ، قال المنافقون : ألم نكن معكم ؟ قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون ! وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين ، قال المنافقون للكافرين : ألم نستحوذ عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين ؟ قد كنا نثبطهم عنكم ! .
واختلف أهل التأويل في تأول قوله : { ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } فقال بعضهم : معناه : ألم نغلب عليكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { ألَمْ نَسْتْحْوِذْ عَلَيْكُمْ } قال : نغلب عليكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه .
قال أبو جعفر : وهذان القولان متقاربا المعنى ، وذلك أن من تأوّله بمعنى : ألم نبين لكم إنما أراد إن شاء الله ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنّا معكم . وأصل الاستحواذ في كلام العرب فيما بلغنا الغلبة ، ومنه قول الله جلّ ثناؤه : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشّيْطانُ فَأنْساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ } بمعنى غلب عليهم ، يقال منه : حاذ عليه ، واستحاذ يحيذ ويستحيذ ، وأحاذ يحيذ . ومن لغة من قال حاذ ، قول العجاج في صفة ثور وكلب :
وهما متقاربا المعنى . ومن لغة من قال أحاذ ، قول لبيد في صفة عَيْر وأُتُن :
إذَا اجْتَمَعْتْ وأحوذَ جانِبَيْها ***وأوْرَدَها على عُوجٍ طِوَالِ
يعني بقوله : وأحوذ جانبيها : غلبها وقهرها حتى حاذ كلا جانبيه فلم يشذّ منها شيء . وكان القياس في قوله : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ } أن يأتي استحاذ عليهم ، لأن الواو إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن ، جعلت العرب حركتها في فاء الفعل قبلها ، وحوّلوها ألفا متبعة حركة ما قبلها ، كقولهم : استحال هذا الشيء عما كان عليه من حال يحول ، واستنار فلان بنور الله من النور ، واستعاذ بالله من عاذ يعوذ . وربما تركوا ذلك على أصله ، كما قال لبيد : «وأحوذ » ، ولم يقل : «وأحاذ » ، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ } .
وأما قوله : { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } فلا خلاف بينهم في أن معناه : ولن يجعل الله للكافرين يومئذٍ على المؤمنين سبيلاً . ذكر الخبر عمن قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ذرّ ، عن يُشَيْع الحضرميّ ، قال : كنت عند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له عليّ : ادنه ! ثم قال : { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } يوم القيامة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوريّ ، عن الأعمش ، عن ذرّ ، عن يُسَيْع الكندي في قوله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } قال : جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب ، فقال : كيف هذه الاَية : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } ؟ فقال عليّ : ادنه ! { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ } يوم القيامة { للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ذرّ ، عن بُسَيْع الحضرميّ ، عن عليّ بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، قال : سمعت سليمان يحدّث عن ذرّ ، عن رجل ، عن عليّ رضي الله عنه أنه قال في هذه الاَية : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } قال : في الاَخرة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي مالك : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } يوم القيامة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } قال : ذاك يوم القيامة .
وأما السبيل في هذا الموضع فالحجة . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً } قال : حجة .
{ الذين يتربصون بكم } ينتظرون وقوع أمر بكم ، وهو بدل من الذين يتخذون ، أو صفة للمنافقين والكافرين أو ذم مرفوع أو منصوب أو مبتدأ خبره . { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } مظاهرين لهم فاسهموا لنا مما غنمتم . { وإن كان للكافرين نصيب } من الحرب فإنها سجال { قالوا ألم نستحوذ عليكم } أي قالوا للكفرة : ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم ، والاستحواذ الاستيلاء وكان القياس أن يقال استحاذ يستحيذ استحاذة فجاءت على الأصل . { ونمنعكم من المؤمنين } بأن خذلناهم بتخييل ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم فأشركونا فيما أصبتم ، وإنما سمي ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا لخسة حظهم ، فإنه مقصور على أمر دنيوي سريع الزوال . { فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } حينئذ أو في الدنيا والمراد بالسبيل الحجة ، واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم . والحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد وهو ضعيف لأنه لا ينفي أن يكون إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة .
{ الذين } صفة للمنافقين ، و { يتربصون } معناه : ينتظرون دور الدوائر عليكم ، فإن كان فتح للمؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يظهرونه من الإيمان ، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار ، وهذا حال المنافقين ، و { نستحوذ } معناه : نغلب على أمركم ، ونحطكم ونحسم أمركم ، ومنه قول العجاج في صفة ثور وبقر : [ الرجز ]
*يحوذهن وله حوذي{[4336]}*
أي يغلبهن على أمرهن ، ويغلب الثيران عليهن ، ويروى يحوزهن بالزاي ، ومن اللفظة قول لبيد في صفة عير وأتن :
إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها *** وأوردها على عوج طوال{[4337]}
أحوذ جانبيها قهرها وغلب عليها ، وقوله تعالى : { استحوذ عليهم الشيطان }{[4338]} [ المجادلة : 19 ] معناه : غلب عليهم ، وشذ هذا الفعل في أن لم تعل واوه ، بل استعملت على الأصل ، وقرأ أبيّ بن كعب «ومنعناكم من المؤمنين » وقرأ ابن أبي عبلة «ونمنعكم » بفتح العين على الصرف{[4339]} ، ثم سلى وأنس المؤمنين بما وعدهم به في قوله { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } أي وبينهم وينصفكم من جميعهم ، وبقوله { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } وقال يسيع الحضرمي : كنت عند علي بن أبي طالب فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً ؟ فقال علي رضي الله عنه : معنى ذلك : يوم القيامة يكون الحكم{[4340]} ، وبهذا قال جميع أهل التأويل .