{ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ } الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ونحو ذلك من الآيات . { قَالَ } لبني إسرائيل : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ } النبوة والعلم ، بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي . { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي : أبين لكم صوابه وجوابه ، فيزول عنكم بذلك اللبس ، فجاء عليه السلام مكملا ومتمما لشريعة موسى عليه السلام ، ولأحكام التوراة . وأتى ببعض التسهيلات الموجبة للانقياد له ، وقبول ما جاءهم به . { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، وامتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ، وآمنوا بي وصدقوني وأطيعون .
وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى - عليه السلام - وحقيقة ما جاء به ؛ وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده :
( ولما جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، فاتقوا الله وأطيعون . إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ، هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ) . .
فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه ، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم . وقال لقومه : ( قد جئتكم بالحكمة ) . ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير ؛ واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور . وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه . وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى - عليه السلام - وانقسموا فرقاً وشيعاً . ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا جَآءَ عِيسَىَ بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلاُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولما جاء عيسى بني إسرائيل بالبيّنات ، يعني بالواضحات من الأدلة . وقيل : عُني بالبيّنات : الإنجيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَمّا جاءَ عِيسَى بالبَيّناتِ أي بالإنجيل . وقوله : قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بالْحِكْمَةِ قيل : عُني بالحكمة في هذا الموضع : النبوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بالْحِكْمَةِ قال : النبوّة .
وقد بيّنت معنى الحكمة فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده ، وذكرت اختلاف المختلفين في تأويله ، فأغنى ذلك عن إعادته .
وقوله : وَلاِبَيّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ يقول : ولأبين لكم معشر بني إسرائيل بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلأَبَيّنَ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال : من تبديل التوراة .
وقد قيل : معنى البعض في هذا الموضع بمعنى الكلّ ، وجعلوا ذلك نظير قول لبيد :
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضها *** أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النّفُوسِ حِمامُها
قالوا : الموت لا يعتلق بعض النفوس ، وإنما المعنى : أو يعتلق النفوس حمامها ، وليس لما قال هذا القائل كبير معنى ، لأن عيسى إنما قال لهم : وَلاِبَيّنَ لَكُمْ بَعْض الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، لأنه قد كان بينهم اختلاف كثير في أسباب دينهم ودنياهم ، فقال لهم : أبين لكم بعض ذلك ، وهو أمر دينهم دون ما هم فيه مختلفون من أمر دنياهم ، فلذلك خصّ ما أخبرهم أنه يبينه لهم . وأما قول لبيد : «أو يعتلق بعض النفوس » ، فإنه إنما قال ذلك أيضا كذلك ، لأنه أراد : أو يعتلق نفسه حمامها ، فنفسه من بين النفوس لا شكّ أنها بعض لا كلّ .
وقوله : فاتّقُوا اللّهَ وأطِيعُونِ يقول : فاتقوا ربكم أيها الناس بطاعته ، وخافوه باجتناب معاصيه ، وأطيعون فيما أمرتكم به من اتقاء الله واتباع أمره ، وقبول نصيحتي لكم .
{ ولما جاء عيسى بالبينات } بالمعجزات أو بآيات الإنجيل ، أو بالشرائع الواضحات . { قال قد جئتكم بالحكمة } بالإنجيل أو بالشريعة . { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } وهو ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا ، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لبيانه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " أنتم أعلم بأمر دنياكم " { فاتقوا الله وأطيعون } فيما أبلغه عنه .
«البينات » التي جاء بها عيسى عليه السلام هي : إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، إلى غير ذلك . وقال قتادة : الإنجيل . والحكمة : النبوءة قاله السدي وغيره .
وقوله : { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } قال أبو عبيدة : { بعض } بمعنى كل ، وهذا ضعيف ترده اللغة ، ولا حجة له من قول لبيد :
أو يعتلق بعض النفوس حمامها . . . لأنه أراد نفسه ونفس من معه ، وذلك بعض النفوس ، وإنما المعنى الذي ذهب إليه الجمهور ، أن الاختلاف بين الناس هو في أمور كثيرة لا تحصى عدداً ، منها أمور أخروية ودينية ، ومنها ما لا مدخل له في الدين ، فكل نبي فإنما يبعث ليبين أمر الأديان والآخرة ، فذلك بعض ما يختلف فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.