السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالَ قَدۡ جِئۡتُكُم بِٱلۡحِكۡمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي تَخۡتَلِفُونَ فِيهِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (63)

{ ولما جاء عيسى } أي : إلى بني إسرائيل { بالبينات } أي : المعجزات أي : بآيات الإنجيل وبالشرائع الواضحات { قال } منبهاً لهم { قد جئتكم } بما يدلكم قطعاً على أني آية من عند الله وكلمة منه { بالحكمة } أي : الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه ، ولا يدفع بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال { ولأبيّن لكم } أي : بياناً واضحاً { بعض الذي تختلفون } أي : الآن { فيه } ولا تزالون تجددون الخلاف بسببه ، فإن قيل : لِمَ لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه ؟ .

أجيب : بأنه بين لهم كل ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه ، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم : «أنتم أعلم بأمر دنياكم » . ويحتمل أن يكون المراد أنه يبين لهم بعض المتشابه وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه ، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه ، فالمحكم : ما ليس فيه التباس ، والمتشابه : ما يكون ملتبساً وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب ، فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم أو يعجز فيقول : الله أعلم بمراده { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ( آل عمران : 8 )

ولا يتزلزل ، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره كأهل الإلحاد الجوامد المفتونين أو يؤوله بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن .

ولما بين لهم الأصول والفروع قال : { فاتقوا الله } أي : خافوا من له الملك الأعظم من الكفر والإعراض عن دينه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم ، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجه إلا بإذنه { وأطيعون } أي : فيما أبلغه عنه إليكم من التكاليف فطاعتي لأمره بما يرضيه هو ثمرة التقوى وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه .