محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالَ قَدۡ جِئۡتُكُم بِٱلۡحِكۡمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي تَخۡتَلِفُونَ فِيهِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (63)

{ ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } أي من أحكام التوراة وغيرها . كاختلاف اليهود في القيامة ، لعدم صراحتها في كتبهم . وقد جاء في نحوها آية{[6492]} { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } وقد وضع عن اليهود شيئا من إصر التوراة وأغلال الناموس ، كما فعل في يوم السبت . خفف شدّة حكمه .

قال بعض المحققين : وإنما لم يقل ( ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه ) لأنه لم يفعل ذلك . بل ترك بيان كثير من الأشياء ، كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للفارقليط ( محمد صلى الله عليه وسلم ) الذي يأتي بعده ، لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه . كما قال هو نفسه في ( إنجيل يوحنا ) في الإصحاح السادس عشر . وخصوصا إذا تعرّض للطعن في كتبهم ، وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم . ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذّبوه ، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون ، فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن . وهي التي بعث من أجلها .

وأما قول الله تعالى عن لسانه{[6493]} { ومصدقا لما بين يدي من التوراة } فالمراد بمثل هذا التعبير ، أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه ، وبه صحت وصدقت . وكلمة ( التوراة ) تطلق عل كتب العهد القديم . فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل . ولولاه لما صدقت تلك النبوات ، فإنها لا تنطبق إلا عليه . وليس المراد أن/ عيسى يقرّ كل ما في التوراة ، كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية . وإلا لما قال بعدها مباشرة {[6494]} { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } فكيف يقرّها وهو قد جاء ناسخا لبعض ما فيها ؟ فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون . ويفسرون ما لا يفهمون . انتهى كلامه . وهو وجيه جدا .

{ فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه } قال ابن جرير{[6495]} : أي إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له ، ربي وربكم جميعا . فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئا . فإنه لا يصح ولا ينبغي أن يعبد شيء سواه { هذا صراط مستقيم } أي هذا الذي أمرتكم به ، من اتقاء الله وطاعتي ، وإفراد الله بالألوهية ، هو الطريق القويم . وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام ، فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله .


[6492]:[3/ آل عمران/ 50].
[6493]:[3/آل عمران/ 50].
[6494]:[3/آل عمران/50]
[6495]:انظر الصفحة رقم 93 من الجزء الخامس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.