و { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ } أي أحلام لا حاصل لها ، ولا لها تأويل .
وهذا جزم منهم بما لا يعلمون ، وتعذر منهم ، [ بما ليس بعذر ]{[443]} ثم قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } أي : لا نعبر إلا الرؤيا ، وأما الأحلام التي هي من الشيطان ، أو من حديث النفس ، فإنا لا نعبره
فجمعوا بين الجهل والجزم ، بأنها أضغات أحلام ، والإعجاب بالنفس ، بحيث إنهم لم يقولوا : لا نعلم تأويلها ، وهذا من الأمور التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا ، وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام . فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم ، فيعجزوا عنها -لم يكن لها ذلك الموقع ، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب ، وكان الملك مهتما لها غاية ، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما ، وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة بالعلم ، بعد أن سألهم فلم يعلموا . ثم سأل آدم ، فعلمهم أسماء كل شيء ، فحصل بذلك زيادة فضله ، وكما يظهر فضل أفضل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في القيامة ، أن يلهم الله الخلق أن يتشفعوا بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهم السلام ، فيعتذرون عنها ، ثم يأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول : " أنا لها أنا لها " فيشفع في جميع الخلق ، وينال ذلك المقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون .
فسبحان من خفيت ألطافه ، ودقَّت في إيصاله البر والإحسان ، إلى خواص أصفيائه وأوليائه .
طلب الملك تأويل رؤياه . فعجز الملأ من حاشيته ومن الكهنة عن تأويلها ، أو أحسوا أنها تشير إلى سوء لم يريدوا أن يواجهوا به الملك على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر الحكام وإخفاء ما يزعجهم . وصرف الحديث عنه ! فقالوا : إنها ( أضغاث أحلام ) أي أخلاط أحلام مضطربة وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل . ( وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ) . . إذا كانت أضغاثا مختلطة لا تشير إلى شيء !
والآن لقد مرت بنا رؤى ثلاث : رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحبي السجن ، ورؤيا الملك . وطلب تأويلها في كل مرة ، والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر - كما أسلفنا - وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه ، على ما نعهد في معجزات الأنبياء ، فهل كانت هذه هي معجزة يوسف ؟ ولكن هذا بحث ليس مكانه هذه الظلال . فنكمل حديث رؤيا الملك الآن !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال الملأ الذين سألهم ملك مصر عن تعبير رؤياه : رؤياك هذه أضغاث أحلام يعنون أنها أخلاط رؤيا كاذبة لا حقيقة لها . وهي جمع ضِغْث ، والضّغْث : أصله الحُزْمة من الحشيش ، يُشَبّهُ بها الأحلام المختلطة التي لا تأويل لها . والأحلام جمع حُلْم ، وهو ما لم يصدقُ من الرؤيا ، ومن الأضغاث قول ابن مقبل :
خَوْدٌ كأنّ فِراشَها وُضِعَتْ بِهِ *** أضْغاثُ رَيْحانٍ غَدَاةَ شَمالِ
يَحْمِي ذِمارَ جَنِينٍ قَلّ مانِعُهُ *** طاوٍ كضِغْثِ الخَلا في البَطْنِ مُكْتَمِنُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أضْغاثُ أحْلامٍ يقول : مشتبهة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أضْغاثُ أحْلامٍ كاذبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما قصّ الملك رؤياه التي رأى على أصحابه ، قالوا : أضغاث أحلام : أي فعل الأحلام .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أضْغاثُ أحْلامٍ قال : أخلاط أحلام ، وَما نَحْنُ بتأوِيل الأحْلامِ بِعالِمِينَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : أضغاث أحلام كاذبة .
قال : ثني المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قالوا : أضغاث ، قال : كذب .
حُدثت عن الحسين بن الفَرَج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أضْغاثُ أحْلامٍ : هي الأحلام الكاذبة .
وقوله : وَما نَحْنُ بتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعالِمِينَ يقول : وما نحن بما تئول إليه الأحلام الكاذبة بعالمِين . والباء الأولى التي في التأويل من صلة «العالمِين » ، والتي في «العالمين » الباء التي تدخل في الخبر مع «ما » التي بمعنى الجحد . ورفع «أضغاث أحلام » ، لأن معنى الكلام : ليس هذه الرؤيا بشيء إنما هي أضغاث أحلام .
{ قالوا أضغاث أحلام } أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة ، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم : فلان يركب الخيل ، أو لتضمنه أشياء مختلفة . { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لا تأويل عندنا ، وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة للعذر في جهلهم بتأويله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.