قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية . قال محمد بن كعب القرظي والكلبي : قالت قريش : يا محمد : إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصىً يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي شيء تحبون ؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل ؟ و أرنا الملائكة يشهدون لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين ، وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهباً فجاءه جبريل عليه السلام ، فقال له : اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله عز وجل : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } ، أي : حلفوا بالله جهد أيمانهم ، أي : بجهد أيمانهم ، يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها .
قال الكلبي ومجاهد : إذا حلف الرجل بالله ، فهو جهد يمينه .
قوله تعالى : { لئن جاءتهم آية } ، كما جاءت من قبلهم من الأمم .
قوله تعالى : { ليؤمنن بها قل } يا محمد .
قوله تعالى : { إنما الآيات عند الله } ، والله قادر على إنزالها .
قوله تعالى : { وما يشعركم } ، وما يدريكم ، واختلفوا في المخاطبين بقوله { وما يشعركم } فقال بعضهم : الخطاب للمشركين الذين أقسموا . وقال بعضهم : الخطاب للمؤمنين . قوله تعالى : { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، وأبو بكر عن عاصم { إنها } بكسر الألف على الابتداء ، وقالوا : تم الكلام عند قوله { وما يشعركم } ، ثم من جعل الخطاب للمشركين قال : معناه : وما يشعركم أيها المشركون أنها لو جاءت آمنتم ؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه : وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا ؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله : { وما يشعركم } ، ثم ابتدأ فقال جل ذكره : { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، وهذا في قوم مخصوصين حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقرأ الآخرون : { أنها } بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين ، واختلفوا في قوله : { لا يؤمنون } ، فقال الكسائي : { لا } صلة ، ومعنى الآية : وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون ؟ كقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء :95 ] ، أي : يرجعون وقيل : إنها بمعنى لعل ، وكذلك هو في قراءة أبي ، تقول العرب : اذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً ، أي : لعلك ، وقال عدي بن زيد :
أعاذل ما يدريك أن منيتي *** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي : لعل منيتي ، وقيل : فيه حذف وتقديره : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو لا يؤمنون ؟ وقرأ ابن عامر و حمزة { لا تؤمنون } بالتاء على الخطاب للكفار ، واعتبروا بقراءة أبي : إذا جاءتكم لا تؤمنون ، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر ، دليلها قراءة الأعمش : { أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون } .
{ 109 - 111 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }
أي : وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم . { بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : قسما اجتهدوا فيه وأكدوه . { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وهذا الكلام الذي صدر منهم ، لم يكن قصدهم فيه الرشاد ، وإنما قصدهم دفع الاعتراض عليهم ، ورد ما جاء به الرسول قطعا ، فإن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالآيات البينات ، والأدلة الواضحات ، التي -عند الالتفات لها- لا تبقي أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به ، فطلبهم -بعد ذلك- للآيات من باب التعنت ، الذي لا يلزم إجابته ، بل قد يكون المنع من إجابتهم أصلح لهم ، فإن الله جرت سنته في عباده ، أن المقترحين للآيات على رسلهم ، إذا جاءتهم ، فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة ، ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : هو الذي يرسلها إذا شاء ، ويمنعها إذا شاء ، ليس لي من الأمر شيء ، فطلبكم مني الآيات ظلم ، وطلب لما لا أملك ، وإنما توجهون إلي توضيح ما جئتكم به ، وتصديقه ، وقد حصل ، ومع ذلك ، فليس معلوما ، أنهم إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ويصدقون ، بل الغالب ممن هذه حاله ، أنه لا يؤمن ، ولهذا قال : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ }
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لّيُؤْمِنُنّ بِهَا قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : حلف بالله هؤلاء العادلون بالله جهد حلفهم ، وذلك أوكد ما قدوا عليه من الأيمان وأصعبها وأشدّها : لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ يقول : قالوا : نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدّق ما تقول يا محمد مثل الذي جاء من قبلنا من الأمم . لَيُؤْمِنُنّ بِها يقول : قالوا : لنصدقنّ بمجيئها بك ، وأنك لله رسول مرسل ، وأن ما جئتنا به حقّ من عند الله . وقيل : «ليؤمننّ بها » ، فأخرج الخبر عن الاَية والمعنى لمجيء الاَية . يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ إنّمَا الاَياتُ عِنْدَ اللّهِ وهو القادر على إتيانكم بها دون كلّ أحد من خلقه . وَما يُشْعِرُكُمْ يقول وما يدريكم إنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ . وذكر أن الذين سألوه الاَية من قومه هم الذين آيس الله نبيه من إيمانهم من مشركي قومه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها إلى قوله : يَجْهَلُونَ سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية ، واستحلفهم ليؤمننّ بها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح : لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنّ بِها ثم ذكر مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ، فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة ؟ فأتنا بشيء من الاَيات حتى نصدّقك فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أيّ شَيْءٍ تُحِبونَ أنْ آتِيَكُمْ بِهِ ؟ » قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، فقال لهم : «فإنْ فَعَلْتُ تُصَدّقُونِي ؟ » قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبغك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل عليه السلام ، فقال : لك ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ، ولئن أرسل آية فلم يصدّقوا عند ذلك لنعذّبنهم ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم . فقال : «بَلْ يَتُوبَ تائِبُهُمْ » . فأنزل الله تعالى : وأقْسَمُوا بالله . . . إلى قوله : يَجْهَلُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ .
اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله : وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ فقال بعضهم : خوطب بقوله : وَما يُشْعِرُكُمْ المشركون المقسمون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمننّ ، وانتهى الخبر عند قوله : وَما يُشْعِرُكُمْ ثم استؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافاً مبتدأ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَما يُشْعِرُكُمْ قال : ما يدريكم . قال : ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم أنّها إذَا جاءَتْ ؟ قال : أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يُؤْمِنُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : سمعت عبد الله بن زيد يقول : إنما الاَيات عند الله ، ثم تستأنف فيقول : أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : إنّمَا الاَياتُ عِنْدَ اللّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ : وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم استقبل يخبر عنهم فقال : إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ .
وعلى هذا التأويل قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف : «أنّها » على أن قوله : «أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ » خبر مبتدأ منقطع عن الأوّل ، وممن قرأ ذلك كذلك بعض قرّاء المكيين والبصريين .
وقال آخرون منهم : بل ذلك خطاب من الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قالوا : وذلك أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآية ، المؤمنون به . قالوا : وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الاَية أذا جاءت آمنوا ، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : سل يا رسول الله ربك ذلك فسأل ، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك ، قل للمؤمنين بك يا محمد : إنما الاَيات عند الله ، وما يشعركم أيها المؤمنون بأن الاَيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لا يؤمنون به ففتحوا الألف من «أن » . وممن قرأ ذلك كذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة ، وقالوا : أدخلت «لا » في قوله : لا يُؤْمِنُونَ صلة ، كما أدخلت في قوله : ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ ، وفي قوله : وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنّهُمْ لا يَرْجِعُونَ وإنما المعنى : وحرام عليهم أن يرجعوا ، وما منعك أن تسجد .
وقد تأوّل قوم قرءوا ذلك بفتح الألف من : أنّها بمعنى : لعلها ، وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبَيّ بن كعب . وقد ذُكر عن العرب سماعاً منها : اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئاً ، بمعنى : لعلك تشتري وقد قيل : إن قول عديّ بن زيد العبادي :
أعاذِلَ ما يُدْرِيك أنّ مَنِيّتِي ***إلى ساعَةٍ فِي اليَومِ أوْ فِي ضُحَى الغَدِ
بمعنى : لعلّ منيتي وقد أنشدوني بيت دُرَيد بن الصّمة :
ذَرِيني أُطَوّفْ فِي البِلادِ لأنّنِي ***أرَى ما تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلّدَا
بمعنى : لعلني . والذي أنشدني أصحابنا عن الفراء : «لعلني أرى ما ترين » . وقد أنشد أيضاً بيت توبة بن الحُمَيّرِ :
لَعَلكَ يا تَيْساً نَزَا فِي مَرِيرَةِ ***مُعَذّبَ لَيْلَى أنْ تَرَانِي أزُورُها
«لَهّنَك يا تيساً » ، بمعنى : لأنك التي في معنى لعلك وأنشد بيت أبي النجم العجلي :
قُلْتُ لشَيْبانَ ادْنُ مِنْ لِقائِه ***إنا نُغَدّي القَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ
وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الاَية ، قول من قال : ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله ، أعنى قوله : وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ ، وأن قوله «أنها » بمعنى : «لعلها » .
وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب لاستفاضة القراءة في قرّاء الأمصار بالياء من قوله : لا يُؤْمِنُونَ ولو كان قوله : وَما يُشْعِرُكُمْ خطاباً للمشركين ، لكانت القراءة في قوله : لا يُؤْمِنُونَ بالتاء ، وذلك وإن كان قد قرأه بعض قراء المكيين كذلك ، فقراءة خارجة عما عليه قرّاء الأمصار ، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلاً على ذهابها وشذوذها .
وإنما معنى الكلام : وما يدريكم أيها المؤمنون لعلّ الاَيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فيعاجَلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك ولا يؤخّروا به .
عطف جملة : { وأقسموا } على جملة : { اتَّبِعْ ما أوحِي إليك من ربّك } [ الأنعام : 106 ] الآية . والضّمير عائد إلى القوم في قوله : { وكذّب به قومك وهو الحقّ } [ الأنعام : 66 ] مثل الضّمائر الّتي جاءت بعد تلك الآية ومعنى : { لئن جاءتهم آية } آية غيرُ القرآن . وهذا إشارة إلى شيء من تعلّلاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدّامغة لهم ، كانوا قد تعلّلوا به في بعض تورّكهم على الإسلام . فروى الطّبري وغيره عن مجاهد ، ومحمدّ بن كعب القُرظِي ، والكلبي ، يزيد بعضهم على بعض : أنّ قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية مثل آية موسى عليه السّلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه العيون ، أو مثل آية صالح ، أو مثل آية عيسى عليهم السّلام ، وأنّهم قالوا لمّا سمعوا قوله تعالى : { إنْ نشأ ننزّل عليهم من السّماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين } [ الشعراء : 4 ] أقسموا أنّهم إن جاءتهم آية كما سألوا أو كما تُوُعدوا ليوقِنُنّ أجمعون ، وأنّ رسول الله عليه الصلاة والسّلام سأل الله أن يأتيهم بآية كما سألوا ، حرصاً على أن يؤمنوا . فهذه الآية نازلة في ذلك المعنى لأنّ هذه السّورة جمعت كثيراً من أحوالهم ومحاجّاتهم .
والكلام على قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } هو نحو الكلام على قوله في سورة [ العقود : 53 ] { أهؤلاء الّذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } والأيمان تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } في سورة [ البقرة : 225 ] .
وجملة : { لئن جاءتهم آية } إلخ مبيّنة لجملة : { وأقسموا بالله } . واللاّم في { لئن جاءتهم آية } موطّئة للقسم ، لأنّها تدلّ على أنّ الشّرط قد جعل شَرطاً في القسم فتدلّ على قَسَم محذوف غالباً ، وقد جاءت هنا مع فعل القسم لأنّها صارت ملازمة للشّرط الواقع جواباً للقسم فلم تنفكّ عنه مع وجود فعل القسم . واللاّم في { ليومننّ بها } لام القسم ، أي لام جوابه .
والمراد بالآية ما اقترحوه على الرّسول صلى الله عليه وسلم يَعنُون بها خارق عادة تدلّ على أنّ الله أجاب مقترحهم ليصدّق رسوله عليه الصلاة والسّلام ، فلذلك نُكّرت { آية } ، يعني : آيَّةَ آيةٍ كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم . ومجيء الآية مستعار لظهورها لأنّ الشّيء الظّاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء . وتقدّم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى : { والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون } في سورة [ البقرة : 39 ] .
ومعنى كون الآيات عند الله أنّ الآيات من آثار قدرة الله وإرادته ، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته ، فهو قادر عليها ، فلأجل ذلك شُبّهت بالأمور المدّخرة عنده ، وأنّه إذا شاء إبرازَها أبرزها للنّاس ، فكلمة { عند } هنا مجاز .
استعمل اسم المكان الشّديد القُرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازاً مرسلاً ، لأنّ الاستئثار من لوازم حالة المكان الشّديد القرب عرفاً ، كقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] .
والحصر ب { إنّما } ردّ على المشركين ظنّهم بأنّ الآيات في مقدور النّبيء صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئاً فجعلوا عدم إجابة النّبيء صلى الله عليه وسلم اقتراحَهم آية أمارة على انتفاء نبوءته ، فأمره الله أن يجيب بأنّ الآيات عند الله لا عند الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، والله أعلم بما يُظهره من الآيات .
وقوله : { وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } قرأ الأكثر ( أنّها ) بفتح همزة « أنّ » . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وخلَف ، وأبو بكر عن عاصم في إحدى روايتين عن أبي بكر بكسر همزة ( إنّ ) .
وقرأ الجمهور { لا يؤمنون } بياء الغيبة . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وخلف بتاء الخطاب ، وعليه فالخطاب للمشركين .
وهذه الجملة عقبة حَيرة للمفسّرين في الإبانة عن معناها ونظمها ولْنَأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها ، ثمّ نعقّبه بأقوال المفسّرين . فالّذي يلوح لي أنّ الجملة يجوز أن تكون الواو فيها واوَ العطف وأن تكون واو الحال . فأمّا وجه كونها واو العطف فأن تكون معطوفة على جملة : { إنّما الآيات عند الله } كلام مستقلّ ، وهي كلام مستقلّ وجّهه الله إلى المؤمنين ، وليست من القول المأمور به النّبيء عليه الصّلاة والسّلام بقوله تعالى : { قل إنّما الآيات عند الله } .
والمخاطب ب { يشعركم } الأظهر أنّه الرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وذلك على قراءة الجمهور قوله : { لا يؤمنون } بياء الغيبة . والمخاطب ب { يشعركم } المشركون على قراءة ابن عامر ، وحمزة ، وخلف { لا تؤمنون } بتاء الخطاب ، وتكون جملة { وما يشعركم } من جملة ما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله في قوله تعالى : { قل إنّما الآيات عند الله } .
{ وأما } استفهامية مستعملة في التّشكيك والإيقاظ ، لئلاّ يغرّهم قَسم المشركين ولا تروجَ عليهم ترّهاتهم ، فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التّوبيخ ولا التّغليظ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليطهم ، إذ لم يثبت أنّ المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين أو أنّ يجَابُوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم ، وكيف والمسلمون يقرأون قوله تعالى : { إنّ الّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية } وهي في سورة [ يونس : 96 ، 97 ] وهي نازلة قبل سورة الأنعام ، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدّين وتلوّنهم في اختلاق المعاذير . والمقصود من الكلام تحقيق ذلك عند المسلمين ، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام لأنّ الاستفهام من شأنه أن يهيّءَ نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام فيتأهّب لوعي ما يرد بعده .
والإشعار : الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفَى ويَدِقّ . يقال : شعَرَ فلان بكذا ، أي علمه وتفطّن له ، فالفعل يقتضي متعلِّقاً به بعد مفعوله ويتعيّن أن قوله : { أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } هو المتعلِّق به ، فهو على تقدير باء الجرّ . والتّقدير : بأنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، فحذف الجارّ مع ( أنّ ) المفتوحة حذف مطّرد .
وهمزة ( أنّ ) مفتوحة في قراءة الجمهور . والمعنى أمُشْعِر يُشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، أي بعدم إيمانهم .
فهذا بيان المعنى والتّركيب ، وإنّما العقدَة في وجود حرف النّفي من قوله : { لا يؤمنون } لأنّ { ما يشعركم } بمعنى قولهم : ما يدريكم ، ومعتاد الكلام في نظير هذا التّركيب أن يجعل متعلّق فعل الدّراية فيه هو الشّيء الّذي شأنُه أن يَظُنّ المخاطبُ وقوعَه ، والشَّيء الَّذي يُظَنّ وقوعُه في مثل هذا المقام هو أنّهم يُؤمنون لأنّه الَّذي يقتضيه قسمهم { لئن جاءتهم آية ليؤمننّ } فلمّا جعل متعلِّق فعل الشّعور نفيَ إيمانهم كان متعلِّقاً غريباً بحسب العرف في استعمال نظير هذا التّركيب .
والّذي يقتضيه النّظر في خصائص الكلام البليغ وفروقِه أن لا يقاس قوله : { وما يُشعركم } على ما شاع من قول العرب { ما يُدريك } ، لأنّ تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتّى جرى مجرى المثل باستعماللٍ خاصّ لا يكادون يخالفونه كما هي سُنّة الأمثال أن لا تغيّر عمّا استعملت فيه ، وهو أن يكون اسم ( ما ) فيه استفهاماً إنكارياً ، وأن يكون متعلّق يُدريك هو الأمر الّذي ينكره المتكلّم على المخاطب . فلو قسنا استعمال { ما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } على استعمال ( ما يدريكم ) لكان وجود حرف النّفي منافياً للمقصود ، وذلك مثار تردّد علماء التّفسير والعربيّة في محمل { لا } في هذه الآية . فأمّا حين نتطلّب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب ( ما يدريكم ) وإلى إيثار تركيب { ما يشعركم } فإنّنا نعلم أنّ ذلك العدول لمراعاة خصوصيّة في المعدول إليه بأنّه تركيب ليس متَّبعاً فيه طريق مخصوص في الاستعمال ، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظمُ في استعمال الأدواتِ والأفعالِ ومفاعيلها ومتعلّقاتها .
فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التّنبيه والتشكيك في الظنّ ، ونحمل فعل { يشعركم } على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العِلم ، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباتُه سواء في الفرض الّذي اقتضاه الاستفهام ، فكان المتكلّم بالخيار بين أن يقول : إنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، وأن يقول : إنّها إذا جاءت يؤمنون . وإنّما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنّه الطرف الرّاجح الّذي ينبغي اعتماده في هذا الظنّ .
هذا وجه الفرق بين التّركيبين . وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا يَنبغي لصاحب علم المعاني غضّ النّظر عنها ، وكثيراً ما بيّن عبد القاهر أصنافاً منها فليُلحَق هذا الفرق بأمثاله .
وإنْ أبَيْتَ إلاّ قياسَ { ما يشعركم } على ( مَا يُدريكم ) سواء ، كما سلكه المفسّرون فاجعل الغالب في استعمال ( ما يُدريك ) هو مقتضى الظّاهر في استعمال { ما يُشعركم } واجعَل تعليق المنفي بالفعل جرياً على خلاف مقتضى الظّاهر لنكتة ذلك الإيماء ويسهل الخطب . وأمّا وجه كون الواو في قوله : { وما يشعركم } واو الحال فتكون « ما » نكرة موصوفة بجملة { يشعركم } . ومعناها شَيء موصوف بأنّه يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون . وهذا الشّيء هو ما سبق نُزوله من القرآن ، مثل قوله تعالى : { إنّ الَّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية } [ يونس : 96 ، 97 ] ، وكذلك ما جرّبوه من تلوّن المشركين في التفصّي من ترك دين آبائهم ، فتكون الجملة حالاً ، أي والحال أنّ القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيْمانهم ، قال تعالى : { إنّهم لا أيْمان لهم } [ التوبة : 12 ] . وإنّي لأعجب كيف غاب عن المفسّرين هذا الوجه من جعل « ما » نكرة موصوفة في حين أنّهم تطرّقوا إلى ما هو أغرب من ذلك .
فإذا جعل الخطاب في قوله : { وما يشعركم } خطاباً للمشركين ، كان الاستفهام للإنكار والتّوبيخ ومتعلِّق فعل { يشعركم } محذوفاً دلّ عليه قوله : { لئن جاءتهم آية } . والتّقدير : وما يشعركم أنّنا نأتيكم بآية كما تريدون .
ولا نحتاج إلى تكلّفات تكلّفها المفسّرون ، ففي « الكشاف » : أنّ المؤمنين طمعوا في إيمان المشركين إذا جاءتهم آية وتمنّوا مجيئها فقال الله تعالى : وما يدريكم أنّهم لا يؤمنون ، أي أنّكم لا تدرون أنّي أعلم أنّهم لا يؤمنون . وهو بناء على جعل { ما يشعركم } مساوياً في الاستعمال لِقولهم { ما يدريك } .
ورَوى سيبويه عن الخليل : أنّ قوله تعالى : { أنّها } معناه لَعلّها ، أي لعلّ آية إذا جاءت لا يؤمنون بها . وقال : تأتى ( أنّ ) بمعنى لعلّ ، يريد أنّ في لعلّ لغة تقول : لأنّ ، بإبدال العين همزة وإبدال اللام الأخيرة نوناً ، وأنّهم قد يحذفون اللام الأولى تخفيفاً كما يحذفونها في قولهم : علّك أن تفعل ، فتصير ( أنّ ) أي ( لعلّ ) . وتبعه الزمخشري وبعض أهل اللّغة ، وأنشدوا أبياتاً .
وعن الفرّاء ، والكسائي ، وأبي عليّ الفارسي : أنّ { لا } زائدة ، كما ادّعوا زيادتها في قوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] .
وذكر ابن عطيّة : أنّ أبا عليّ الفارسي جعل { أنّها } تعليلاً لقوله { عند الله } أي لا تأتيهم بها لأنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، أي على أن يكون { عند } كناية عن منعهم من الإجابة لما طلبوه .
وعلى قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويعقوب ، وخلف ، وأبي بكر ، في إحدى روايتين عنه { إنّها } بكسر الهمزة يكون استئنافاً . وحذف متعلّق { يشعركم } لظهوره من قوله { لَيُؤمِنُنّ بها } . والتّقدير : وما يشعركم بإيمانهم إنّهم لا يؤمنون إذا جاءت آية .
وعلى قراءة ابن عامر ، وحمزة ، وخلف بتاء المخاطب . فتوجيه قراءة خلف الّذي قرأ { إنّها } بكسر الهمزة ، أن تكون جملة { أنّها إذا جاءت } الخ خطاباً موجّهاً إلى المشركين . وأمّا على قراءة ابن عامر وحمزة اللّذيْن قرآ { أنّها } بفَتح الهمزة فأن يجعل ضمير الخطاب في قوله : { وما يشعركم } موجّهاً إلى المشركين على طريقة الالتفات على اعتبار الوقف على { يشعركم } .