{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم . يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه ، ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا . فأنزل الله عز وجل : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين ، فأنزل الله تعالى :{ لم تقولون ما لا تفعلون } ؟ وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر ، قالت الصحابة لئن لقينا بعده قتالاً لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية . وقال قتادة والضحاك : نزلت في شأن القتال ، كان الرجل يقول : قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن زيد : نزلت في المنافقين كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون .
وقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ } يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا صدّقوا الله ورسوله ، لم تقولون القول الذي لا تصدّقونه بالعمل ، فأعمالكم مخالفة أقوالكم { كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ } يقول : عظم مقتا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أُنْزلت هذه الآية ، فقال بعضهم : أُنزلت توبيخا من الله لقوم من المؤمنين ، تمنوا معرفة أفضل الأعمال ، فعرّفهم الله إياه ، فلما عرفوا قصروا ، فعوتبوا بهذه الآية .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ } قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يُفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله دلنا على أحبّ الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحبّ الأعمال إليه إيمان بالله لا شكّ فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به فلما نزل الجهاد ، كره ذلك أُناس من المؤمنين ، وشقّ عليهم أمره ، فقال الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ }قال : كان قوم يقولون : والله لو أنا نعلم ما أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتا . . . } إلى قوله { بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ }فدلهم على أحبّ الأعمال إليه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن محمد بن جحادة ، عن أبي صالح ، قال : قالوا : لو كنا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله وأفضل ، فنزلت : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ }فكرهوا ، فنزلت : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله { لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ . . . إلى قوله : مَرْصُوصٌ }فيما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة ، قالوا في مجلس : لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا بها حتى نموت ، فأنزل الله هذا فيهم ، فقال عبد الله بن رواحة : لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أموت ، فقُتل شهيدا .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في توبيخ قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أحدهم يفتخر بالفعل من أفعال الخير التي لم يفعلها ، فيقول فعلت كذا وكذا ، فعذلهم الله على افتخارهم بما لم يفعلوا كذبا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ }قال : بلغني أنها كانت في الجهاد ، كان الرجل يقول : قاتلت وفعلت ، ولم يكن فعل ، فوعظهم الله في ذلك أشدّ الموعظة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ }يؤذنهم ويعلمهم كما تسمعون كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ وكانت رجال تخبر في القتال بشيء لم يفعلوه ولم يبلغوه ، فوعظهم الله في ذلك موعظة بليغة ، فقال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ . . . إلى قوله : كأنّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ } .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ أنزل الله هذا في الرجل يقول في القتال ما لم يفعله من الضرب والطعن والقتل قال الله : { كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ } .
وقال آخرون : بل هذا توبيخ من الله لقوم من المنافقين ، كانوا يَعِدُونَ المؤمنين النصر وهم كاذبون .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ }يقول للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : لو خرجتم خرجنا معكم ، وكنا في نصركم ، وفى ، وفى ، فأخبرهم أنه { كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ } .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عنى بها الذين قالوا : لو عرفنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به ، ثم قصروا في العمل بعدما عرفوا .
وإنما قلنا : هذا القول أولى بها ، لأن الله جلّ ثناؤه خاطب بها المؤمنين ، فقال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا }ولو كانت نزلت في المنافقين لم يسموْا ، ولم يوصفوا بالإيمان ، ولو كانوا وصفوا أنفسهم بفعل ما لم يكونوا فعلوه ، كانوا قد تعمدوا قيل الكذب ، ولم يكن ذلك صفة القوم ، ولكنهم عندي أمّلوا بقولهم : لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله عملناه أنهم لو علموا بذلك عملوه فلما علموا ضعفت قوى قوم منهم ، عن القيام بما أملوا القيام به قبل العلم ، وقوي آخرون فقاموا به ، وكان لهم الفضل والشرف .
واختلفت أهل العربية في معنى ذلك ، وفي وجه نصب قوله : كَبُرَ مَقْتا فقال بعض نحويي البصرة : قال : كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ : أي كبر مقتكم مقتا ، ثم قال : { أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ } : أذى قولكم . وقال بعض نحويي الكوفة : قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ } : كان المسلمون يقولون : لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله لأتيناه ، ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا فلما كان يوم أُحد ، نزلوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شُجّ ، وكُسرت رباعيته ، فقال : { لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ } ، ثم قال : { كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّهِ }كبر ذلك مقتا : أي فأن في موضع رفع ، لأن كبر كقوله : بئس رجلاً أخوك .
واختلف الناس في السبب الذي نزلت فيه : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } فقال ابن عباس وأبو صالح : نزلت بسبب أن جماعة قالوا : لوددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى ربنا حتى نفنى فيه ، ففرض الله الجهاد وأعلمهم بفضله لديه وأنه يحب المقاتلين في سبيله كالبنيان المرصوص ، وكان إذ فرض قد تكرهه قوم منهم ، وفر من فر يوم أحد فعاتبهم الله بهذه الآية بسبب أو جماعة من شباب المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب ، فنزلت الآية في ذلك . وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين لأن جملة منهم كانوا يقولون للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك ، فنزلت الآية عتاباً لهم ، وحكم هذه الآية باق غابر الدهر ، وكل من يقول ما لا يفعل ، فهو ممقوت مذق الكلام{[11067]} ، والقول الآخر في المنافقين إنما يتوجه بأن يكونوا غير مجلحين بالنفاق{[11068]} فلذلك خوطبوا بالمؤمنين أي في زعمكم وما تظهرون ، والقول الأول يترجح بما يأتي بعد من أمر الجهاد والقتال .
ناداهم بوصف الإِيمان تعريضاً بأن الإِيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن أن يخالف فعلُه قولَه في الوعد بالخير .
واللام لتعليل المستفهم عنه وهو الشيء المبْهم الذي هو مدلول { ما } الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهم يطلب تعيينه .
والتقدير : تقولون مَا لاَ تفعلون لأي سبب أو لأية علّة .
وتتعلق اللام بفعل { تقولون } المجرور مع حرف الجر لصدارة الاستفهام .
والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضياً لله تعالى ، أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك كما في قوله تعالى : { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل } في سورة البقرة ( 91 ) . فيجوز أن يكون القول الذي قالوه وعداً وعَدوه ولم يفوا به . ويجوز أن يكون خبراً أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع . وقد مضى استيفاء ذلك في الكلام على صدر السورة .
وهذا كناية عن تحذيرهم من الوقوع في مثل ما فعلوه يوم أحد بطريق الرمز ، وكناية عن اللوم على ما فعلوه يوم أحد بطريق التلويح .
وتعقيب الآية بقوله : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } [ الصف : 4 ] الخ . يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل الله . وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في « الكشاف » .
وفيه تعريض بالمنافقين إذ يظهرون الإِيمان بأقوالهم وهم لا يعملون أعمال أهل الإِيمان بالقلب ولا بالجسد . قال ابن زيد : هو قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك .