اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ} (2)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .

روى الدَّارميُّ في مسنده قال : أنْبَأنَا مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ عَنِ الأوزاعيِّ عنْ يَحْيى بْنِ أبِي كثيرٍ عن أبِي سلمةَ عن عبْدِ اللَّهِ بن سلام ، قال : قَعَدنَا مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا ؟ فأنزل الله - تعالى - : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } حتى ختمها{[56369]} ، قال عبد الله : قرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها ، قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة ، فقرأها علينا يحيى ، فقرأها علينا الأوزاعي ، فقرأها علينا محمد ، فقرأها علينا الدارمي .

وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه{[56370]} ، [ فلما نزل الجهاد كرهوه ]{[56371]} .

[ وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ]{[56372]} ، فنزلت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[ الصف : 10 ] ، فمكثوا زماناً يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ؟ فدلَّهم الله عليها بقوله : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ }[ الصف : 11 ] الآية ، فابتلوا يوم أحد ، ففروا ، فنزلت هذه الآية تعبيراً لهم بترك الوفاء{[56373]} .

وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ : لما أخبر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء «بدر » ، قالت الصحابة رضي الله عنهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد ، فعيرهم الله بذلك{[56374]} .

وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وابتلينا ، ولم يفعلوا{[56375]} .

وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ، وأنكاهم ، فقتله ، فقال رجل : يا نبي الله ، إني قتلت فلاناً ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف : يا صُهيبُ ، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلاناً ، فإن فلاناً انتحل قتله ، فأخبره ، فقال : أكذلك يا أبا يحيى ؟ قال : نعم ، والله يا رسول الله ، فنزلت الآية في المنتحل{[56376]} .

وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ، كانوا يقولون «للنبي » صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم ، وقاتلنا ، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا{[56377]} .

فصل :

قال القرطبي{[56378]} : «هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي بها » .

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث قراء إلى أهل «البصرة » ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل ، قد قرأوا القرآن ، فقال أنتم خيار أهل «البصرة » وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمدُ ، فتقسوا قلوبكم ، كما قست قلوب من قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة ب «براءة » ، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها «لَوْ كَان لابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مالٍ لابْتَغَى وَادِياً ثَالثاً ، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلاَّ التُّرابُ » ، وكُنَّا نقرأُ سُورة تُشبههَا بإحْدَى المُسَبِّحاتِ ، فأنْسيتُهَا غير أنِّي قد حفظت منها : «يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقُولُون ما لا تفعَلُونَ ، فتُكْتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة »{[56379]} .

قال ابن العربي{[56380]} : وهذا كله ثابت في الدين ، أما قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فثابتٌ في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة ، وأما قوله : شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة ، فمعنى ثابت في الدين ، فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً ، والملتزم على قسمين :

[ أحدهما : النذر ، وهو ]{[56381]} على قسمين :

نذر تقرب مبتدأ ، كقوله : لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة ، ونحوه من القرب ، فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً .

ونذر مباح ، وهو ما علق به شرط رغبة ، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة ، ففيه خلاف : فقال مالك وأبو حنيفة : يلزم الوفاء به ، وقال الشافعي في قول : لا يلزم الوفاء به ، وعموم الآية حجة لنا ؛ لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق ، أو مقيد بشرط .

وقد قال أصحابه : إن النذر إنَّما يكون بما يقصد منه القربة مما هو من جنس القربة ، وهذا وإن كان من جنس القربة ، لكنه لم يقصد منه القربة ، وإنما قصد منه منع نفسه عن فعل ، أو من الإقدام على فعل .

قلنا : القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات ، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة كجلب نفع أو دفع ضرر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ، ولا زال عن قصد التقرب .

قال ابن العربي{[56382]} : «فإن كان المقول منه وعداً فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله : إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت جارية كذا أعطيتك ، فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء ، وإن كان وعداً مجرداً .

فقيل : يلزم بتعلقه ، واستدلوا بسبب الآية ، فإن روي أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله هذه الآية ، وهو حديث لا بأس به .

وروي عن مجاهد أن عبد الله [ بن رواحة ]{[56383]} لما سمعها قال : " لا أزال حبيساً في الله حتى أقتل " {[56384]} .

والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال » .

قال القرطبي{[56385]} : «قال مالك : فأما العدد مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة ، فيقول : نعم ، ثم يبدو له ألاَّ يفعل ، فلا أرى ذلك يلزمه » .

فصل :

قال القرطبي{[56386]} : ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ }[ البقرة : 44 ] { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }[ هود : 88 ] ، { يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] .

وخرج أبو نعيمٍ الحافظ من حديث مالكِ بنِ دينارٍ عَنْ ثُمامةَ عن أنس بْنِ مالكٍ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتَيْتُ لَيْلةَ أسْري بِي عَلَى قوْمٍ تُقْرَضُ شِفاهُهُمْ بِمقاريضَ مِنْ نارٍ ، كُلَّما قُرِضتْ عادتْ ، قُلْتُ : مَنْ هؤلاء يَا جِبْريْلُ ؟ .

قال : هَؤلاءِ خُطَبَاءُ أمَّتِكَ الذينَ يقُولُونَ ولا يَفْعَلُون ويقرءُونَ كِتَابَ اللَّهِ ولا يعملُون بِهِ " {[56387]} .

فصل :

قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .

استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله ، أما في الماضي ، فيكون كذباً ، وفي المستقبل ، يكون خلفاً ، وكلاهما مفهوم{[56388]} .

قال الزمخشري{[56389]} : هي لام الإضافة ، دخلت على " ما " الاستفهامية ، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : " بم ، وفيم ، وعمَّ " ، وإنما حذفت الألف ؛ لأن " ما " والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالها في كلام المستفهم » ، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ } ، والاستفهام من الله تعالى مُحَال ؛ لأنه عالم بجميع الأشياء ، والجواب{[56390]} هذا إذا كان المراد حقيقة الاستفهام ، وأما إذا كان أراد إلزام من أعرض عن الوفاء مما وعد أو أنكر الحق وأصرَّ على الباطل فلا .

وتأول سفيانُ بنُ عيينة قوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي : لم تقولون [ ما ليس الأمر فيه ]{[56391]} إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون ، أو لا تفعلون ، فعلى هذا يكون الكلام محمولاً على ظاهره في إنكار القول .


[56369]:أخرجه الدارمي في "مسنده" (2/200).
[56370]:في أ: لسارعنا إليها.
[56371]:سقط من أ.
[56372]:سقط من أ.
[56373]:ينظر القرطبي (18/51).
[56374]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/337) والقرطبي (18/52).
[56375]:ينظر المصدر السابق.
[56376]:ذكره القرطبي (18/52).
[56377]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/337) والقرطبي (18/52).
[56378]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 18/52.
[56379]:أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/725) من حديث أبي موسى الأشعري.
[56380]:انظر أحكام القرآن 4/1799.
[56381]:سقط من أ.
[56382]:ينظر: أحكام القرآن 4/180.
[56383]:سقط من أ.
[56384]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/316) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر.
[56385]:الجامع لأحكام القرآن (18/53).
[56386]:ينظر السابق، والثابت في المطبوع أنه من كلام النخعي.
[56387]:أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/44) من حديث أنس من طريق إبراهيم بن أدهم عن مالك بن دينار عن أنس مرفوعا وقال أبو نعيم مشهور من حديث مالك بن أنس غريب من حديث إبراهيم عنه، وذكره السيوطي في الدر المنثور" (4/278) وعزاه إلى ابن مردويه.
[56388]:ينظر: القرطبي 18/53.
[56389]:الكشاف 4/522.
[56390]:ينظر: الفخر الرازي 29/270.
[56391]:سقط من أ.