السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ} (2)

{ يأيها الذين آمنوا } أي : ادّعوا الإيمان ، { لم تقولون ما لا تفعلون } حتى ختمها . قال عبد الله : «فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : قرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها ، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة فقرأها علينا أبو يحيى ، فقرأها علينا الأوزاعي ، فقرأها علينا محمد فقرأها علينا الدرامي انتهى . ولي بقراءتها سند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الله بن عباس : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فلما نزل الجهاد كرهوه . وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزل :{ هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم }[ الصف : 10 ] فمكثوا زماناً يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ، فدلهم الله تعالى عليها بقوله تعالى :{ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله }[ الصف : 11 ] الآية ، فابتلوا يوم أحد ففروا فنزلت الآية تعييراً لهم بترك الوفاء .

وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر ، قالت الصحابة : اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك . وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وأبلينا ، ولم يفعلوا . وقيل : قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال عمر لصهيب : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك قتلته ، فقال : إنما قتلته لله ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى ، قال : نعم ، فنزلت في المنتحل ، وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم ، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم ، وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا .

وقال القرطبي : هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي به .

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ، ولا تطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة فشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب . وكنا نقرأ سورة فشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها :{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } فلبثت شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة . قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة ، وأما قوله : شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ، فمعنى ذلك : ثابت في الدين فإن من التزم شيئاً ألزمه شرعاً . وقال القرطبي : ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم }[ البقرة : 44 ] { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } [ هود : 88 ] و{ يا أيها الذين آمنوالم تقولون ما لا تفعلون } وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلما قرضت عادت ، قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به » .

تنبيه : قوله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون } استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير مالا يفعله ، إما في الماضي فيكون كذباً ، وإما في المستقبل فيكون خلقاً وكلاهما مذموم . قال الزمخشري : لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام ، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم ، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا . ه . ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه .