فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ} (2)

{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( 2 ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( 3 ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( 4 ) } .

ينادي الله تعالى من انتسبوا إلى الإيمان ليظلوا ويثبتوا على القول الطيب والعمل به ؛ أو يكون النداء للمؤمنين ويراد به إسماع أدعياء الإيمان من المنافقين الذين قالوا آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، كالذين عجبنا القرآن من شأنهم ، فهم يتعجلون القتال ، ويتلهفون على شهوده والمشاركة فيه ، فإذا جاء حينه ودعوا إلى الوفاء بما عاهدوا عليه وتمنوه فروا ! . يقول ربنا تبارك اسمه- : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين }{[6697]} ؛ كما يقول- عز وجل- : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال . . . }{[6698]} و { لم } مكونة من [ ما ] الاستفهامية ؛ ولام الجر ؛ مما يقول النحاة : - وحذفت الألف من [ ما ] الاستفهامية للفرق بينها وبين الإخبارية . فكأن المعنى- والله تعالى أعلم بالمراد- لماذا قلتم ووعدتم ثم لم تعملوا ما قلتموه وأخلفتم ؟ - [ لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف ؟ ] على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم ، وإنما وجه إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد أيضا ، وقد كانوا يحسبونه معروفا ، ولو قيل : لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود{[6699]} . عظم بغض الله تعالى واشتد مقته على الذين يعدون ولا يوفون{[6700]} ؛ إن الله المولى المعبود يحب من اقتل في سبيل إعلاء كلمته وصيانة حرماته ودعوته ، وكان من إخوته المجاهدين في صف{[6701]} محكم لا خلل فيه ولا فرجة ، وإنما هو صف متماسك متلائم ، مستو مترابط ، حتى كأنه قطعة واحدة ، وثبت فلم يتراجع ولم يول الدبر ؛ مما نقل القرطبي : قال النخعي : ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم }{[6702]} ، { . . وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه . . . }{[6703]} ، { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } اه .

وعن الكسائي : { أن } في موضع رفع- يريد { أن } وما دخلت عليه في تأويل مصدر في محل رفع- لأن { كبر } فعل بمنزلة [ بئس ] ؛ و{ مقتا } نصب بالتمييز ؛ المعنى : كبر قولهم ما لا يفعلون مقتا .


[6697]:- سورة البقرة. الآية 246.
[6698]:سورة النساء. من الآية 77.
[6699]:- مما أورد صاحب روح المعاني.
[6700]:- عن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا، فسكت، فقيل له: حدثنا، فقال: وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فاستعجل مقت الله عز وجل.
[6701]:- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: (ثلاث يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل والقوم إذا صفوا للصلاة والقوم إذا صفوا للقتال). وقال مطرف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك، فقال: لله أبوك، فقد لقيت فهات، فقلت: كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة، قال: أجل فلا أخالن اكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم، قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل؟ قال: رجل غزا في سبيل الله خرح محتسبا مجاهدا، فلقى العدو فقتل، وأنكم تجدونه في كتاب الله المنزل، قم قرأ: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه الترمذي والنسائي بنحوه.
[6702]:- سورة البقرة. من الآية 44.
[6703]:- سورة هود. من الآية 88.