قوله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الآية . قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله : { والسابقون } . واختلفوا في السابقين الأولين ، قال سعيد بن المسيب ، وقتاد وابن سيرين وجماعة : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر . وقال الشعبي : هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية . واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة ، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال بعضهم : أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو قول جابر ، قال مجاهد وابن إسحاق ، أسلم وهو ابن عشر سنين . وقال بعضهم : أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي . وقال بعضهم : أول من أسلم زيد بن حارثة ، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير . وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومن العبيد زيد بن حارثة . قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله رسوله ، وكان رجلا محببا سهلا كان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها ، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ، فأسلم على يديه - فيما بلغني - : عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام . ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام ، أما السابقون من الأنصار : فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وكانوا ستة في العقبة الأولى ، وسبعين في الثانية ، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن ، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان . قوله عز وجل : { والسابقون الأولون من المهاجرين } الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم . { والأنصار } أي : ومن الأنصار ، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه ، { والذين اتبعوهم بإحسان } . قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين . وقيل : هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة . وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء . وقال أبو صخر حميد بن زياد : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم ، فقلت : من أين تقول هذا ؟ فقال : يا هذا اقرأ قول الله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } إلى أن قال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ، وقال : { والذين اتبعوهم بإحسان } ، شرط في التابعين شريطة وهى أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة . قال أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط . روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " . ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } ، قرأ ابن كثير : " من تحتها الأنهار " ، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة ، { خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } .
{ 100 ْ } { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ }
السابقون هم الذين سبقوا هذة الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة والجهاد ، وإقامة دين اللّه .
{ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا ، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون }
و من { الْأَنْصَارِ } ( الذين تبوأوا الدار والإيمان ، [ من قبلهم ] يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )
{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } بالاعتقادات والأقوال والأعمال ، فهؤلاء ، هم الذين سلموا من الذم ، وحصل لهم نهاية المدح ، وأفضل الكرامات من اللّه .
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة ، { وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ } الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان ، والحدائق الزاهية الزاهرة ، والرياض الناضرة .
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } لا يبغون عنها حولا ، ولا يطلبون منها بدلا ، لأنهم مهما تمنوه ، أدركوه ، ومهما أرادوه ، وجدوه .
{ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل لهم فيه ، كل محبوب للنفوس ، ولذة للأرواح ، ونعيم للقلوب ، وشهوة للأبدان ، واندفع عنهم كل محذور .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله : والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ يقول : والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، طَلَبَ رضا الله ، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ .
واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله : والسّابِقُونَ الأوّلُونَ فقال بعضهم : هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أو أدركوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن إسماعيل ، عن عامر : والسّابِقُونَ الأوّلُونَ قال : من أدرك بيعة الرضوان .
قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عامر ، قال : المُهاجِرُونَ الأوّلُونَ من أدرك البيعة تحت الشجرة .
حدثنا ابن بشار ، قال حدثنا يحيى ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : المُهاجِرُونَ الأوّلون الذين شهدوا بيعة الرضوان .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن مطرف ، عن الشعبيّ ، قال : المهاجرون الأوّلون : من كان قبل البيعة إلى البيعة فهم المهاجرون الأولون ، ومن كان بعد البيعة فليس من المهاجرين الأوّلين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل ومطرّف عن الشعبي ، قال : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ هم الذين بايعوا بيعة الرضوان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحُديبية .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرّف ، عن الشعبي ، قال : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبثر أبو زبيد ، عن مطرف ، الشعبي ، قال : المهاجرون الأوّلون : من أدرك بيعة الرضوان .
وقال آخرون : بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن عثمان الثقفي ، عن مولى لأبي موسى ، عن أبي موسى ، قال : المهاجرون الأوّلون : مَنْ صلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن مولى لأبي موسى ، قال : سألت أبا موسى الأشعري ، عن قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي هلال ، عن أبي قتادة ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : لم سموا المهاجرين الأوّلين ؟ قال : من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعا ، فهو من المهاجرين الأوّلين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : المهاجرون الأوّلون : الذين صلوا القبلتين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيّبِ ، قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عباس بن الوليد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، وعن أشعث ، عن ابن سيرين في قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ قال : هم الذين صلوا القبلتين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد ، قال : المهاجرون الأوّلون : الذين صلوا القبلتين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعا .
وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأوّلين والأنصار بإحسان ، فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير . كما :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ قال : من أقرأك هذه الآية ؟ قال أقرأنيها أبيّ بن كعب . قال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فأتاه فقال : أنت أقرأت هذا هذه الآية ؟ قال نعم ، قال : وسمعَتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا . قال : وتصديق ذلك في أوّل الآية التي في أوّل الجمعة ، وأوسط الحشر ، وآخر الأنفال أما أوّل الجمعة : وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، وأوسط الحشر : وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ ، وأما آخر الأنفال : والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأولَئِكَ مِنْكُمْ .
حدثنا أبو كريب ، حدثنا الحسن بن عطية ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ . . . حتى بلغ : وَرَضُوا عَنْهُ قال : وأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ قال : أبيّ بن كعب . فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم ، قال : أنت سمعَتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، فقال أبيّ : بلى تصديق هذه الآية في أوّل سورة الجمعة : وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ . . . إلى : وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ، وفي سورة الحشر : وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإِيمَانِ ، وفي الأنفال : والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأُلَئِكَ مِنْكُمْ . . . إلى آخر الآية .
حدثني به أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن حبيب بن الشهيد ، وعن ابن عامر الأنصاري ، أن عمر بن الخطاب قرأ : «السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارُ الّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ » فرفع «الأنصار » ولم يلحق الواو في «الذين » ، فقال له زيد بن ثابت : «والذين اتبعوهم بإحسان » ، فقال عمر : «الذين اتبعوهم بإحسان » . فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم فقال عمر : ائتوني بأبيّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك ، فقال أبي : والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ فقال عمر : إذا نُتابع أبيّا .
والقراءة على خفض «الأنصار » عطفا بهم على «المهاجرين » . وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ : «الأنصارُ » بالرفع عطفا بهم على «السابقين » .
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الخفض في «الأنصار » ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأن السابق كان من الفريقين جميعا من المهاجرين والأنصار . وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين دون الخبر عن الجميع ، وإلحاق الواو في «الذين اتبعوهم بإحسان » ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعا ، على أن التابعين بإحسان غير المهاجرين والأنصار . وأما السابقون فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله : رَضِي اللّهُ عَنْهُمْ ورضُوا عَنْهُ . ومعنى الكلام : رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه ، ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام ، وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار يدخلونها خالدين فيها لابثين فيها أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها ، ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
قال أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة { السابقون الأولون } من صلى القبلتين ، وقال عطاء { السابقون الأولون } من شهد بدراً .
قال القاضي أبو محمد : وحولت القبلة قبل بدر بشهرين ، وقال عامر بن شراحيل الشعبي{[5852]} : { السابقون الأولون } من أدرك بيعة الرضون ، { والذين اتبعوهم بإحسان } يريد سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان ، وقد لزم هذا الاسم الطبقة التي رأت من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو قال قائل إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقطعت الهجرة لكان قولاً يقتضيه اللفظ وتكون { من } لبيان الجنس ، و { والذين } في هذه الآية عطف على قوله { والسابقون } ، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن وقتادة وسلام وسعيد ويعقوب بن طلحة وعيسى الكوفي «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصارُ » برفع الراء عطفاً على { والسابقون } ، وكذلك ينعطف على كلتا القراءتين قوله تعالى : { والذين اتبعوهم بإحسان } وجعل الأتباع عديلاً للأنصار ، وأسند الطبري أن زيد بن ثابت سمعه فرده فبعث عمر في أبي بن كعب فسأله فقال أبي بن كعب { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان } ، فقال عمر ما كنا نرى إلا أنَّا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد ، فقال أبي إن مصداق هذا في كتاب الله في أول سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم }{[5853]} وفي سورة الحشر { والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }{[5854]} وفي سورة الأنفال في قوله { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم }{[5855]} ، فرجع عمر إلى قول أبي ، ونبهت هذه الآية من التابعين وهم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نبه من ذكرهم قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار » فتأمله{[5856]} ، وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار » وقرأ الباقون «تحتها » بإسقاط «من » ومعنى هذه الآية : الحكم بالرضى عنهم بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم والحكم برضاهم عنه في شكرهم وحمدهم على نعمه وإيمانهم به وطاعتهم له جعلنا الله من الفائزين برحمته { ممن حولكم من الأعراب } الآية ، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في بعضها أمته .
عُقِّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذِي مُتطلب الصلاح حذوَهم ، ولئلا يخلوَ تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحَواليها وبَواديها ، عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به . وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها .
فالجملة عطف على جملة : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } [ التوبة : 98 ] .
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان ، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين ، والكفار الصرحاء ، والكفار المنافقين ؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم ، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان ، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية .
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معاً ، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة : من صلى القبلتين . وقال عطاء : من شهد بدراً . وقال الشعبي : من أدركوا بيعة الرضوان . وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله : { والأنصار } للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين ، وهذا يخص المهاجرين . وفي « أحكام ابن العربي » ما يشبه أنَّ رأيه أن السابقين أصحاب العقبتين ، وذلك يخص الأنصار . وعن الجبائي : أن السابقين مَن أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل .
واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة ، أي بفتح مكة ، وهذا يَقصر وصفَ السبق على المهاجرين . ولا يلاقي قراءة الجمهور بخفض { الأنصار } . و { من } للتبعيض لا للبيان .
والأنصار : جمع نصير ، وهو الناصر . والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوْس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان . دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف ، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد .
وقرأ الجمهور { والأنصار } بالخفض عطفاً على المهاجرين ، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار . وقرأ يعقوب { والأنصارُ } بالرفع ، فيكون عطفاً على وصف { السابقون } ويكون المقسَّم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين .
والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم في الإيمان ، أي آمنوا بعد السابقين : ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة .
والإحسان : هو العمل الصالح . والباء للملابسة . وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص ، فهم محسنون ، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة ، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد ، مثل المؤلفة قلوبهم ، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل ، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات .
وجملة : { رضي الله عنهم } خبر عن { السابقون } . وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد . ورضَى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءَهم ، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم .
والإعداد : التهيئة . وفيه إشعار بالعناية والكرامة . وتقدم القول في معنى جري الأنهار .
وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها ( مِنْ ) مع ( تَحتِها ) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء ، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف ( من ) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد ، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، ومن فعل ( أعد ) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه .
وثبتت ( مِن ) في مصحف مَكة ، وهي قراءة ابن كثير المكي ، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين .