قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم } حظكم ونصيبكم من القرآن ، { أنكم تكذبون } قال الحسن في هذه الآية : خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به . وقال جماعة من المفسرين : معناه وتجعلون شكركم أنكم تكذبون . وقال الهيثم بن عدي : إن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان ، بمعنى ما شكر ، وهذا في الاستسقاء بالأنواء ، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا ، ولا يرون ذلك من فضل الله تعالى ، فقيل لهم : أتجعلون رزقكم ، أي : شكركم بما رزقتم ، يعني شكر رزقكم التكذيب ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد ابن خالد الجهني قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي ، وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا كذا ، فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب " . ورواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد : فنزلت هذه الآية { فلا أقسم بمواقع النجوم } إلى قوله : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } ( الواقعة- 82 ) .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد ابن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سيفان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن سلمة المرادي ، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو ابن الحارث ، أنبأنا أبو يونس حدثه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ، ينزل الله تعالى الغيث فيقولون : مطرنا بكوكب كذا وكذا " .
وقوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي : تجعلون مقابلة منة الله عليكم بالرزق التكذيب والكفر لنعمة الله ، فتقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها ، فهلا شكرتم الله تعالى على إحسانه ، إذ أنزله الله إليكم ليزيدكم من فضله ، فإن التكذيب والكفر داع لرفع النعم وحلول النقم .
وقوله : وَتَجْعَلُونَ رِزقَكمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ يقول : وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب ، وذلك كقول القائل الاَخر : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ ، بمعنى : جعلت : شكر إحساني ، أو ثواب إحساني إليك إساءة منك إليّ .
وقد ذُكر عن الهيثم بن عديّ : أن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان : بمعنى ما شكر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف فيه منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني عبد الأعلى الثعلبي ، عن أبي عبد الرحمن السلميّ ، عن عليّ رضي الله عنه وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ قال : شكركم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عليّ رفعه وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ قال : «شكركم تقولون مُطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا وكذا » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عليّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبون قال : «شُكْرَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ » ، قال : «يَقُولُونَ مُطِرْنا بنَوْءِ كَذا وكَذا » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : ما مُطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا ، يقولون : مُطرنا بنوء كذا وكذَا ، وقرأ ابن عباس وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا معاذ بن سليمان ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُون ثم قال : ما مُطر الناس ليلة قطّ ، إلا أصبح بعض الناس مشركين يقولون : مُطرنا بنوء كذا وكذا . قال : وقال وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ يقول : شكركم على ما أنزلت عليكم من الغيث والرحمة تقولون : مُطرنا بنوء كذا وكذا قال : فكان ذلك منهم كفرا بما أنعم عليهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، قال : أحسبه أو غيره «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ومطروا يقول : مُطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال : «كَذَبْتَ بَلْ هُوَ رِزْقُ اللّهِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ اللّهَ لَيُصَبّحُ القَوْمَ بالنّعْمَةِ ، أوْ يُمَسّيهِمِ بِها ، فَيُصْبِحُ بِها قَوْمٌ كافِرِينَ يَقُولُونَ : مُطِرْنا بَنْوْءِ كَذَا وكَذا » قال محمد : فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب ، فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هريرة ، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي ، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال : يا عباس يا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال : العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا ، قال : فما مضت سابعة حتى مُطروا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عليّ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ قال : كان يقرأها «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أنّكُم تُكَذبُونَ » يقول : جعلتم رزق الله بنوء النجم ، وكان رزقهم في أنفسهم بالأنواء أنواء المطر إذا نزل عليهم المطر ، قالوا : رزُقنا بنوء كذا وكذا ، وإذا أمسك عنهم كذّبوا ، فذلك تكذيبهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عطاء الخراساني ، في قوله : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ قال : كان ناس يمطرون فيقولون : مُطرنا بنوء كذا ، مُطرنا بنوء كذا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَتَجْعَلُونَ رِزقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبونَ قال : قولهم في الأنواء : مُطرنا بنوء كذا ونوء كذا ، يقول : قولوا هو من عند الله وهو رزقه .
حُدثت ، عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ يقول : جعل الله رزقكم في السماء ، وأنتم تجعلونه في الأنواء .
حدثني أبو صالح الصراري ، قال : حدثنا أبو جابر «محمد بن عبد الملك الأزدي » قال : حدثنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم بن أبي أُمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «ما مُطِر قَوْمٌ مِنْ لَيْلَةٍ إلاّ أصْبَحَ قَوْمٌ بِها كافِرِينَ ، ثم قال : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذبُون » يقول قائِلٌ مُطِرْنا بنَجْمِ كَذَا وكَذَا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتجعلون حظكم منه التكذيب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُم تُكَذّبُونَ أما الحسن فكان يقول : بئسما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب به .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنّكُمْ تُكَذّبُونَ خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب .
وقوله عز وجل : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله للعباد هذا بنوء كذا وكذا وهذا ب «عثانين » الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك . والمعنى : وتجعلون شكر رزقكم ، كما تقول لرجل : جعلت يا فلان إحساني إليك أن تشتمني المعنى : جعلت شكر إحساني . وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة : ما رزق فلان ؟ بمعنى ما شكره . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرؤها : «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون » ، وكذلك قرأ ابن عباس ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم{[10937]} ، إلا أن ابن عباس ضم التاء وفتح الكاف ، وعلي رضي الله عنه : فتح التاء وسكن الكاف وخفف الذال ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ السريع ]
وكان شكر القوم عند المنى . . . كي الصحيحات وفقء الأعين{[10938]}
وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل من السماء ماء مباركاً فأنبت به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد فهذا معنى قوله : { إنكم تكذبون } ، أي بهذا الخبر .
وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : «تَكْذبون » بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف الدال كقراءة علي بن أبي طالب . وكذبهم في مقالتهم بين ، لأنهم يقولون هذا بنوء كذا وذلك كذب منهم وتخرص ، وذكر الطبري أن النبي عليه السلام سمع رجلاً يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال له : «كذبت ، بل هو رزق الله »{[10939]} .
قال القاضي أبو محمد : والنهي عنه المكروه هو أن يعتقد أن للطالع من النجوم تأثيراً في المطر ، وأما مراعاة بعض الطوالع على مقتضى العادة ، فقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء : يا عباس ، يا عم النبي عليه السلام كم بقي من نوء الثريا ، فقال العباس : العلماء يقولون إنها تتعرض في الأفق بعد سقوطها سبعاً . قال ابن المسيب : فما مضت سبع حتى مطروا{[10940]} .