السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

ولما كان هذا القرآن متكفلاً بسعادة الدارين قال تعالى : { وتجعلون رزقكم } أي : حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله { أنكم تكذبون } فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } [ الأنفال : 35 ] أي : لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة ، قال القرطبي : وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذللاً ، وعن ابن عباس : أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا ؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم : هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا قال : فنزلت هذه الآية { فلا أقسم بمواقع النجوم } حتى بلغ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } » .

وفيه أيضاً «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى ، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } » . أي : شكراً الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة ، وتقولون : سقينا بنوء كذا كقول القائل : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوّاً ، قال الشافعي : لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئاً من المطر ، والذي أحب أن يقول : مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا ، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب . وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه ، وسبب الكراهة : أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم .