قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } .
أحدها : أنه على التهكم بهم ، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه ، كقولك : شتمني حيث أحسنت إليه ، أي : عكس قضية الإحسان .
كَأنَّ شُكْر القَوْمِ عندَ المِنَنِ *** كيُّ الصَّحِيحاتِ ، وفقْءُ الأعيُنِ{[55117]}
الثاني : أن ثمَّ مضافين محذوفين ، أي : بدل شكر رزقكم ، ليصح المعنى .
وقد تقدم في قوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] أكثر من هذا .
الثالث : أنَّ الرزق هو الشكر في لغة «أزد شنوءة » يقولون : ما رزق فلان فلاناً ، أي : ما شكره ، فعلى هذا لا حذف ألبتة .
ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب{[55118]} - رضي الله عنه - وتلميذه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - : «وتَجْعَلُونَ شُكْركُمْ » مكان رزقكم .
قال القرطبي{[55119]} : «وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشُّكر لأنَّ شكر الرِّزق يقتضي الزيادة فيه ، فيكون الشكر رزقاً لهذا المعنى » .
قوله : { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } .
قرأ العامة : «تُكذِّبُونَ » من التكذيب .
وعلي - رضي الله عنه - وعاصم في رواية المفضل عنه : «تكْذبُونَ »{[55120]} مخففاً من الكذب .
ومعنى الآية : أنكم مكذبون بالرِّزق ، أي ؛ تضعون الكذب مكان الشُّكر ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، أي : لم يكونوا يصلون ، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصَّلاة .
قال القرطبي{[55121]} : وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير ، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله - تعالى - ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذلُّلاً .
وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون » خفيفة{[55122]} .
وعن ابن عباس أيضاً : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب : مُطِرْنَا بنوءِ كذا ، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي «صحيح مسلم » عن ابن عبَّاس قال : «مطر النَّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أصْبَحَ من النَّاسِ شَاكِرٌ ومنهُمْ كَافرٌ » .
فقال بعضهم : هذه رحمة الله ؛ وقال بعضهم : لقد صدق نَوْء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }{[55123]} .
وعنه أيضاً : «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أرأيْتُمْ إن دعوْتُ اللَّهَ لكُم فسُقيْتُمْ لعلَّكمْ تقولون : هذا المطرُ بنَوْءِ كذا » ، فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء . فصلّى ركعتين ، ودعا ربه ، فهاجتْ ريح ، ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابةٌ من أصحابه برجل يغترف بقدح له ، وهو يقول : سقينا بنوء كذا ، ولم يقل هذا من رزق الله ، فنزلت : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } »{[55124]} .
أي : شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة ، وتقولون : سقينا بنوء كذا ، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ ، وجعلت إنعامي إليك أن اتَّخذتني عدُوًّا .
قال الشَّافعي : لا أحب لأحدٍ أن يقول : مُطِرنَا بنوء كذا ، وإن كان النَّوْءُ عندنا الوقت المخلوق لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يمطر ، ولا يحبس شيئاً من المطر ، والذي أحبّ أن يقول : مطرنا وقت كذا ، كما تقول : مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوءِ كذا ، وهو يريد أن النَّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشِّرك فهو كافر ، حلال دمه إن لم يَتُبْ .
وقيل{[55125]} : معنى قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } أي : معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد ، كما يقال : فلان جعل قطع الطريق معاشه ، فعلى هذا التَّكذيب عام ، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق ، كما يقال للمأكول : رِزْق ، وللمقدور : قُدْرة وللمخلوق : خَلْق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.