اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } .

فيه أوجه :

أحدها : أنه على التهكم بهم ، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه ، كقولك : شتمني حيث أحسنت إليه ، أي : عكس قضية الإحسان .

ومنه : [ الرجز ]

كَأنَّ شُكْر القَوْمِ عندَ المِنَنِ *** كيُّ الصَّحِيحاتِ ، وفقْءُ الأعيُنِ{[55117]}

أي : شكر رزقكم تكذيبكم .

الثاني : أن ثمَّ مضافين محذوفين ، أي : بدل شكر رزقكم ، ليصح المعنى .

قاله ابن مالك .

وقد تقدم في قوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] أكثر من هذا .

الثالث : أنَّ الرزق هو الشكر في لغة «أزد شنوءة » يقولون : ما رزق فلان فلاناً ، أي : ما شكره ، فعلى هذا لا حذف ألبتة .

ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب{[55118]} - رضي الله عنه - وتلميذه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - : «وتَجْعَلُونَ شُكْركُمْ » مكان رزقكم .

قال القرطبي{[55119]} : «وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشُّكر لأنَّ شكر الرِّزق يقتضي الزيادة فيه ، فيكون الشكر رزقاً لهذا المعنى » .

قوله : { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } .

قرأ العامة : «تُكذِّبُونَ » من التكذيب .

وعلي - رضي الله عنه - وعاصم في رواية المفضل عنه : «تكْذبُونَ »{[55120]} مخففاً من الكذب .

ومعنى الآية : أنكم مكذبون بالرِّزق ، أي ؛ تضعون الكذب مكان الشُّكر ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، أي : لم يكونوا يصلون ، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصَّلاة .

قال القرطبي{[55121]} : وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير ، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله - تعالى - ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذلُّلاً .

وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون » خفيفة{[55122]} .

وعن ابن عباس أيضاً : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب : مُطِرْنَا بنوءِ كذا ، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي «صحيح مسلم » عن ابن عبَّاس قال : «مطر النَّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أصْبَحَ من النَّاسِ شَاكِرٌ ومنهُمْ كَافرٌ » .

فقال بعضهم : هذه رحمة الله ؛ وقال بعضهم : لقد صدق نَوْء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }{[55123]} .

وعنه أيضاً : «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أرأيْتُمْ إن دعوْتُ اللَّهَ لكُم فسُقيْتُمْ لعلَّكمْ تقولون : هذا المطرُ بنَوْءِ كذا » ، فقالوا : يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء . فصلّى ركعتين ، ودعا ربه ، فهاجتْ ريح ، ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابةٌ من أصحابه برجل يغترف بقدح له ، وهو يقول : سقينا بنوء كذا ، ولم يقل هذا من رزق الله ، فنزلت : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } »{[55124]} .

أي : شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة ، وتقولون : سقينا بنوء كذا ، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ ، وجعلت إنعامي إليك أن اتَّخذتني عدُوًّا .

قال الشَّافعي : لا أحب لأحدٍ أن يقول : مُطِرنَا بنوء كذا ، وإن كان النَّوْءُ عندنا الوقت المخلوق لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يمطر ، ولا يحبس شيئاً من المطر ، والذي أحبّ أن يقول : مطرنا وقت كذا ، كما تقول : مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوءِ كذا ، وهو يريد أن النَّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشِّرك فهو كافر ، حلال دمه إن لم يَتُبْ .

وقيل{[55125]} : معنى قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } أي : معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد ، كما يقال : فلان جعل قطع الطريق معاشه ، فعلى هذا التَّكذيب عام ، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق ، كما يقال للمأكول : رِزْق ، وللمقدور : قُدْرة وللمخلوق : خَلْق .


[55117]:ينظر البحر 8/214 وروح المعاني 27/156، والدر المصون 6/269.
[55118]:ينظر: الكشاف 4/469، والمحرر الوجيز 5/252، والبحر المحيط 8/213، والدر المصون 6/269.
[55119]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 17/148.
[55120]:ينظر: الحجة 6/264، والمحتسب 2/310، ونسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينظر: إعراب القراءات 2/348، والمحرر الوجيز 5/252، والبحر المحيط 8/214، والدر المصون 6/269.
[55121]:الجامع لأحكام القرآن 17/148.
[55122]:انظر: القراءة السابقة.
[55123]:أخرجه مسلم (1/84) كتاب الإيمان، باب: بيان كفر من قال مطرنا بالنوء حديث (127/73) من حديث ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/233) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه.
[55124]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/234) وعزاه إلى ابن مردويه.
[55125]:ينظر الرازي 17/172.