معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (107)

قوله تعالى : { فإن عثر } ، أي : اطلع على خيانتهما ، وأصل العثور : الوقوع على الشيء .

قوله تعالى : { على أنهما } ، يعني : الوصيين .

قوله تعالى : { استحقا } ، استوجبا .

قوله تعالى : { إثما } ، بخيانتهما وبأيمانهما الكاذبة .

قوله تعالى : { فآخران } من أولياء الميت .

قوله تعالى : { يقومان مقامهما } ، يعني : مقام الوصيين .

قوله تعالى : { من الذين استحق } ، بضم التاء على المجهول ، هذه قراءة العامة ، يعني : الذين استحق .

قوله تعالى : { عليهم } ، أي فيهم ولأجلهم الإثم ، وهم ورثة الميت . استحق الحالفان بسببهم الإثم ، و( على ) بمعنى ( في ) ، كما قال الله { على ملك سليمان } [ البقرة :102 ] وقرأ حفص ( استحق ) بفتح التاء والحاء ، وهي قراءة علي والحسن ، أي : حق ، ووجب عليهم الإثم ، يقال : حق واستحق ، بمعنى واحد .

قوله تعالى : { الأوليان } ، نعت للآخران ، أي : فآخران الأوليان ، وإنما جاز ذلك والأوليان معرفة ، والآخران نكرة ، لأنه لما وصف الآخران فقال { من الذين } صار كالمعرفة في المعنى ، والأوليان تثنية الأولى ، ولأولى هو أقرب ، وقرأ حمزة ، وأبو بكر ، عن عاصم ، ويعقوب { الأولين } بالجمع ، فيكون بدلا من الذين ، والمراد منهم أيضا أولياء الميت . ومعنى الآية : إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت .

قوله تعالى : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } ، يعني : يميننا أحق من يمينهما ، نظيره قوله تعالى في اللعان : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } . [ النور :6 ] . والمراد بها الأيمان ، فهو كقول القائل : أشهد بالله ، أي : أقسم بالله .

قوله تعالى : { وما اعتدينا } ، في أيماننا ، وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادتهما .

قوله تعالى : { إنا إذا لمن الظالمين } . فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان ، فحلفا بالله بعد العصر ، فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت . وكان تميم الداري بعدما أسلم يقول : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء ، فأتوب إلى الله وأستغفره ، وإنما انتقل اليمين إلى الأولياء لأن الوصيين ادعيا أنهما ابتاعاه . والوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال : إنه أوصى لي به حلف الوارث ، إذا أنكر ذلك ، وكذلك لو ادعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ، ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي ، حلف المدعي أنه لم يبعها منه ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن تميم الداري قال : كنا بعنا الإناء بألف درهم ، فقسمتها أنا وعدي ، فلما أسلمت تأثمت ، فأتيت موالي الميت ، فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحلف عمرو والمطلب ، فنزعت الخمسمائة من عدي ، ورددت أنا الخمسمائة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (107)

{ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا } أي : الشاهدين { اسْتَحَقَّا إِثْمًا } بأن وجد من القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان }

أي : فليقم رجلان من أولياء الميت ، وليكونا من أقرب الأولياء إليه . { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : أنهما كذبا ، وغيرا وخانا . { وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن ظلمنا واعتدينا ، وشهدنا بغير الحق .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (107)

ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا تبين أن الرجلين اللذين دفع إليهما الموصى ما له لم يكونا أمينين فقال : { فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان } .

وقوله : { عثر } أي : اطلع . يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه . ويقال : عثرت منه على خيانة أي : اطلعت .

وقوله : { الأوليان } تثنية أولى بمعنى أقرب . فالمراد بقوله { الأوليان } أي : الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت .

والمعنى : فإن اطلع بعد تحليف الشاهدين الوصيين من جهة الميت على أنهما { استحقآ إِثْماً } أي : فعلا ما يوجب الإِثم من خيانة أو كتمان أو ما يشبههما { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } أي : فرجلان آخران يقومان مقام الذين اطلع على خيانتهما : أي يقفان موقفهما في الحبس بعد الصلاة والحلف ويكون هذان الرجلان الآخران { مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان } .

قال القرطبي : قال ابن السدي : أي من الذين استحق عليهم الإِيصاء واختاره ابن العربي ؛ وأيضاً فإن التفسير عليه ، لأن المعنى عند أهل التفسير : من الذين استحقت عليهم الوصية .

وقال بعض العلماء : قوله { مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان } أي : من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أي : الأقربان إلى الميت ؛ الوارثان له . الأحقان بالشهادة ، أي : اليمين . فقوله { الأوليان } فاعل { استحق } .

ومفعول { استحق } محذوف ، قدره بعضهم " وصيتهما " وقدره ابن عطية " ما لهم وتركتهم " وقدره الزمخشري ، أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهر بهما كذب الكاذبين .

وقرئ { استحق } على البناء للمفعول . أي من الذين استحق عليهم الإِثم أي " جنى عليهم " ، وهم أهل الميت وعشيرته . وعليه فقوله : { الأوليان } هو بدل من الضمير في { يقومان } أو من { آخران } .

وقوله : { فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعتدينآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين } بيان لكيفية اليمين التي يحلفها هذان الأوليان .

أي : فيحلف بالله هذان الأوليان - أي الأقربان إلى الميت - قائلان { لشهاداتنا } أي : ليميننا { أحق } بالقبول { مِن شَهَادَتِهِمَا } أي : من يمينهما { وَمَا اعتدينآ } أي : وما تجاوزنا الحق في يميننا وفيما نسبناه إليهما من خيانة { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين } أي إنا إذا اعتدينا وقلنا فيهما خلاف الحق لنكونن في زمرة الظالمين لأنفسهم المستحقين لسخط الله وعقابه .

قال الآلوسي : وقوله { فَيُقْسِمَانِ بالله } معطوف على { يقومان } في قوله : { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } والسببية ظاهرة وقوله : { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } جواب القسم .

والمراد بالشهادة هنا - عند الكثيرين - اليمين كما في قوله - تعالى - { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } وصيغة التفضيل { أحق } إنما هي لإِمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في إدعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (107)

قوله : { فإن عُثر على أنّهما استحقّا إثماً فآخران } الآية ، أي إن تبيَّنَ أنّهما كتما أو بدّلا وحنثا في يمينهما ، بطلت شهادتهما ، لأنّ قوله { فآخران يقومان مقامهما } فرع عن بطلان شهادتهما ، فحذف ما يعبّر عن بطلان شهادتهما إيجازاً كقوله : { اضرِبْ بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [ البقرة : 60 ] أي فضرب فانفجرت .

ومعنى { عُثِر } اطُّلِع وتَبيّن ذلك ، وأصل فعل عَثَر أنّه مصادفة رِجْلِ الماشي جسماً ناتئاً في الأرض لم يترقّبه ولم يَحْذر منه فيختلّ به اندفاعُ مَشْيه ، فقد يسقط وقد يتزلزل . ومصدره العِثَار والعُثور ، ثم استعمل في الظَفَر بشيء لم يكن مترقّباً الظفَر به على سبيل الاستعارة . وشاع ذلك حتّى صار كالحقيقة ، فخصّوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العِثار ، وخصّوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر ، وهو العثور .

ومعنى { استَحقَّا إثماً } ثبت أنّهما ارتكبا ما يأثمان به ، فقد حقّ عليهما الإثم ، أي وقع عليهما ، فالسين والتاء للتأكيد . والمراد بالإثم هو الذي تبرّءا منه في قوله : { لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله } . فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنّهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضاً لأنفسهما أو لغيرهما ، أو بأن يظهر أنّهما كتما الشهادة ، أي بعضها . وحاصل الإثم أن يتّضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت .

وقوله { فآخران } أي رجلان آخران ، لأنّ وصف آخر يطلق على المغاير بالذات أو بالوصف مع المماثلة في الجنس المتحدّث عنه ، والمتحدث عنه هنا { اثنان } . فالمعنى فاثنان آخران يقومان مقامهما في إثبات الوصية . ومعنى يقومان مقامهما ، أي يعوّضان تلك الشهادة . فإنّ المقام هو محلّ القيام ، ثم يراد به محلّ عمل مّا ، ولو لم يكن فيه قيام ، ثم يراد به العمل الذي من شأنه أن يقع في محلّ يقوم فيه العامل ، وذلك في العمل المهمّ . قال تعالى : { إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري } [ يونس : 71 ] . فمقام الشاهدين هو إثبات الوصية . و { من } في قوله : { من الذين استحقّ عليهم } تبعيضية ، أي شخصان آخران يكونان من الجماعة من الذين استحق عليهم .

والاستحقاق كون الشيء حقيقاً بشيء آخر ، فيتعدّى إلى المفعول بنفسه ، كقوله : { استحقّا إثماً } ، وهو الشيء المستحق . وإذا كان الاستحقاق عن نزاع يعدّى الفعل إلى المحقوق ب { على } الدالّة على الاستعلا بمعنى اللزوم له وإن كره ، كأنّهم ضمّنوه معنى وجَب كقوله تعالى : { حقيق علي أن لا أقول على الله إلاّ الحق } [ الأعراف : 105 ] . ويقال : استحقّ زيد على عمرو كذا ، أي وجب لزيد حقّ على عمرو ، فأخذه منه .

وقرأ الجمهور { استُحقّ عليهم } بالبناء للمجهول فالفاعل المحذوف في قوله { استُحقّ عليهم هو مستحِقّ مّا ، وهو الذي انتفع بالشهادة واليمين الباطلة ، فنال من تركة الموصي ما لم يجعله له الموصي وغَلَبَ وارثَ الموصي بذلك . فالذين استُحقّ عليهم هم أولياء الموصي الذين لهم مالُه بوجه من وجوه الإرثِ فحُرموا بَعضه . وقوله { عليهم } قائم مقام نائب فاعل { استحقّ } .

وقوله : { الأوليان } تثنية أوْلَى ، وهو الأجدر والأحقّ ، أي الأجدران بقبول قولهما . فماصْدقه هو مَاصْدق { الآخران } ومرجعه إليه فيجوز ، أن يجعل خبراً عن { آخران } ، فإنّ { آخران } لمّا وصف بجملة { يقومان مقامهما } صحّ الابتداء به ، أي فشخصان آخران هما الأوْلَيَان بقبول قولهما دون الشاهدين المتّهمين .

وإنّما عرّف باللاّم لأنّه معهود للمخاطب ذهناً لأنّ السامع إذا سمع قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقَّا إثماً } ترقّب أن يعرف من هو الأولى بقبول قوله في هذا الشأن ، فقيل له : آخران هما الأوليان بها . ويجوز أن يكون { الأوليان } مبتدأ و { آخران يقومان } خبره . وتقديم الخبر لتعجيل الفائدة ، لأنّ السامع يترقّب الحكم بعد قوله : { فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً } فإنّ ذلك العثور على كذب الشاهدين يسقط شهادتهما ويمينهما ، فكيف يكون القضاء في ذلك ، فعجّل الجواب . ويجوز أن يكون بدلاً من { آخران } أو من الضمير في { يقومان } أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هما الأوليان . ونكتة التعريف هيَ هي على الوجوه كلّها .

وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف ، { الأوّلين } بتشديد الواو مفتوحة وبكسر اللام وسكون التحتية جمع أول الذي هو مجاز بمعنى المقدّم والمبتدأ به . فالذين استحقّ عليهم هم أولياء الموصي حيث استحقّ الموصى له الوصية من مال التركة الذي كان للأولياء ، أي الورثة لولا الوصية ، وهو مجرور نعت ( للذين استحقّ عليهم ) .

وقرأ حفص عن عاصم { استحَقّ } بصيغة البناء للفاعل فيكون { الأوليان } هو فاعل { استحقّ } ، وقوله { فيقسمان بالله } تفريع على قوله { يقومان مقامهما } .

ومعنى { لشهادتنا أحقّ من شهادتهما } أنّهما أولى بأن تقبل شهادتهما من اللذيْن عثِر على أنّهما استحقّا إثماً . ومعنى { أحقّ } أنّها الحقّ ، فصيغة التفضيل مسلوبة المفاضلة .

وقوله { وما اعتدينا } توكيد للأحقّيّة ، لأنّ الأحقّيّة راجعة إلى نفعهما بإثبات ما كتمه الشاهدان الأجنبيان ، فلو لم تكن كذلك في الواقع لكانت باطلاً واعتداء منهما على مال مبلّغي الوصية . والمعنى : وما اعتدينا على الشاهدين في اتّهامهما بإخفاء بعض التركة .

وقوله { إنّا إذن لمنَ الظالمين } أي لو اعتدينا لكنّا ظالمَين . والمقصود منه الإشعار بأنّهما متذكّران ما يترتّب على الاعتداء والظلم ، وفي ذلك زيادة وازع .

وقد تضمّن القسم على صدق خبرهما يميناً على إثبات حقّهما فهي من اليمين التي يثبت بها الحقّ مع الشاهد العرفي ، وهو شاهد التهمة التي عثر عليها في الشاهدين اللذين يبلّغان الوصية .

والكلام في « إذن » هنا مثل الكلام في قوله : { إنّا إذن لمن الآثمين } .

والمعنى أنّه إن اختلّت شهادة شاهدي الوصية انتقل إلى يمين الموصى له سواء كان الموصى له واحداً أم متعدّداً . وإنّما جاءت الآية بصيغة الاثنين مراعاة للقضية التي نزلت فيها ، وهي قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء ، فإنّ ورثة صاحب التركة كانا اثنين هما : عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة ، وكلاهما من بني سهم ، وهما مَوْليا بُديل بن أبي مريم السهمي صاحب الجام . فبعض المفسّرين يذكر أنهما مَوْليا بُديل .

وبعضهم يقول : إنّ مولاه هو عمرو بن العاصي . والظاهر من تحليف المطلب ابن أبي وداعة أنّ له ولاء من بديل ، إذ لا يعرف في الإسلام أن يحلف من لا ينتفع باليمين . فإن كان صاحب الحقّ واحداً حلف وحده وإن كان أصحاب الحقّ جماعة حلفوا جميعاً واستحقّوا . ولم يقل أحد أنّه إن كان صاحب الحقّ واحداً يحلف معه من ليس بمستحقّ ، ولا إن كان صاحب الحقّ ثلاثة فأكثر أن يحلف اثنان منهم ويستحقّون كلّهم . فالاقتصار على اثنين في أيمان الأوليين ناظر إلى قصّة سبب النزول ، فتكون الآية على هذا خاصّة بتلك القضية . ويجري ما يخالف تلك القضية على ما هو المعروف في الشريعة في الاستحقاق والتهم . وهذا القول يقتضي أنّ الآية نزلت قبل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية بُديل بن أبي مريم . وذلك ظاهر بعض روايات الخبر ، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنّ الآية نزلت بعد أن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذٍ يتعيّن أن تكون تشريعاً لأمثال تلك القضية ممّا يحدث في المستقبل ، فيتعيّن المصير إلى الوجه الأول في اشتراط كون الأوليين اثنين إن أمكن .

وبقيت صورة لم تشملها الآية مثل أن لا يجد المحتضَر إلاّ واحداً من المسلمين ، أو واحداً من غير المسلمين ، أو يجد اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم . وكلّ ذلك يجري على أحكامه المعروفة في الأحكام كلّها من يمين من قام له شاهد أو يمين المنكر .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فَـَٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (107)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فإن عثر على أنهما استحقا إثما}: فإن اطلع على أنهما، يعني النصرانيين كتما شيئا من المال أو خانا، {فآخران} من أولياء الميت، يعني عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، {يقومان مقامهما}، يعني مقام النصرانيين، {من الذين استحق} الإثم، {عليهم الأوليان فيقسمان بالله}: فيحلفان بالله في دبر صلاة العصر أن الذي في وصية صاحبنا حق، وأن المال كان أكثر مما أتيتمانا به، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه، وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما، فذلك قوله سبحانه: {لشهادتنا}، يعني عبد الله بن عمرو بن العاص، والمطلب، {أحق من شهادتهما}، يعني النصرانيين، {وما اعتدينا} بشهادة المسلمين من أولياء الميت، {إنا إذا لمن الظالمين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"فإنْ عُثِرَ": فإن اطلع منهما، أو ظهر. وأصل العثر: الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم: عثرت إصبع فلان بكذا: إذا صدمته وأصابته، ووقعت عليه، ثم يستعمل ذلك في كلّ واقع على شيء كان عنه خفيا...

"على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما": فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنا، ولو كان ذا قُربى، ولا نكتم شهادة الله "على أنهما استحقا إثما"، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثما، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خنّا، ولا بدّلنا، ولا غَيّرنا، فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئا، أو غَيّرا وصيته، أو بدّلا، فأثما بذلك من حلفهما بربهما "فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما": يقوم حينئذٍ مقامهما من ورثة الميت الأوليان الموصى إليهما.

عن ابن عباس، في قوله: "أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ "من غير المسلمين تحبسونهما من بعد الصلاة، فإن ارتِيبَ في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلاً فإن اطلع الأولياء على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نَعْتَدِ فذلك قوله: "فإنْ عُثِرَ على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما "يقول: إن اطلع على أن الكافرين كذبا، "فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما" يقول: من الأولياء، فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنّا لم نعتد. فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء...

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حكم الله تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الآخرين بعد أن عُثِر عليهما أنهما استحقا إثما؛ فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى لغير الذي يجوز في حكم الإسلام، وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضّل بعض ولده ببعض ماله.

وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك إذا ارتابوا بدعواهما.

والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الشاهدين ألزما اليمين في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلها خيانة مال معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذٍ مع شهادة الشاهد عليهما أو على أحدهما إنما صحح دعواه إذا حقق حقه، أو الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلاّ ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بينة، فينقل حينئذٍ اليمين إلى أولياء الميت.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكما يجب فيه اليمين على الشهود ارتيب بشهادتهما أو لم يرتب بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرا لذلك. ولم نجد ذلك كذلك صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بإجماع من الأمة، لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى، فيكون أصلاً مسلما. والمقول إذا خرج من أن يكون أصلاً أو نظيرا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحا فساده. وإذا فسد هذا القول بما ذكرناه، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أن من حكم الله تعالى أن مدّعيا لو ادّعى في مال ميت وصية أن القول قول ورثة المدّعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدّعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدّعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نقل الإيمان عنهم إلى أولياء الميت، إذا عُثِر على أن الشهود استحقوا إثما في أيمانهم فمعلوم بذلك فساد قول من قال: ألزم اليمين الشهود لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت في ماله، على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به حين نزلت هذه الآية بين الذين نزلت فيهم وبسببهم... ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا دليل واضح على صحة ما قلنا من أن حكم الله تعالى باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى ورثته على المسنَد إليهما الوصية خيانة فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيها المدّعي ذلك قبله إلاّ بيمين، وإن نقل اليمين إلى ورثة الميت، بما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين أنهما استحقّا إثما في أيمانهما، ثم ظُهِر على كذبهما فيها، إنّ القوم ادّعوا فيما صحّ أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، مما يكون اليمين فيها على ورثة الميت دون المدّعَى، وتكون البينة فيها على المدعي وفساد ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. وفيها أيضا البيان الواضح على أن معنى الشهادة التي ذكرها الله تعالى في أوّل هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى في مواضع أخر: "والّذِينَ يَرْمونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُمْ فشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ باللّهِ إنّهُ لمِنَ الصّادقينَ"، فالشهادة في هذا الموضع معناها القسم من قول القائل: أشهد بالله إنه لمن الصادقين، وكذلك معنى قوله:"شَهادَةُ بَيْنِكُمْ "إنما هو قَسَم بينكم،" إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ "أن يقسم اثْنان ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ إن كانا ائتمنا على ما قال، فارتيب بهما، أو ائتمن آخران من غير المؤمنين فاتهما. وذلك أن الله تعالى لمّا ذكر نقل اليمين من اللذين ظهر على خيانتهما إلى الاخرين، قال: "فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما". ومعلوم أن أولياء الميت المدّعين قِبَل اللذين ظهر على خيانتهما، غير جائز أن يكون شهداء بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حقّ مدّعى عليه لمدّع، لأنه لا يعلم لله تعالى حكم قضى فيه لأحد بدعواه، ويمينه على مدّعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدّعى عليه ولا برهان. فإذا كان معلوما أن قوله: "لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما" إنما معناه: قسمنا أحقّ من قسمهما، وكان قسم اللذين عثر على أنهما أثما هو الشهادة التي ذكر الله تعالى في قوله:"أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما "صح أن معنى قوله:"شَهادَةِ بَيْنِكُمْ "بمعنى الشهادة في قوله:"لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما "وأنها بمعنى القسم...

وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى: «فإنْ عُثَر على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فَآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتُحِقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ» أنهما رجلان آخران من المسلمين، أو رجلان أعدل من المُقسِمَين الأوّلين...

وأما قوله" الأوْلَيانِ "فإن معناه عندنا: الأولى بالميت من المقسمين الأوّلين فالأولى، وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى، ثم حذف «منهما» والعرب تفعل ذلك فتقول: فلان أفضل، وهي تريد أفضل منك، وذلك إذا وضع أفعل موضع الخبر، وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه الألف واللام، فعلوا ذلك أيضا إذا كان جوابا لكلام قد مضى، فقالوا: هذا الأفضل، وهذا الأشرف يريدون هو الأشرف منك. وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.

" فَيُقْسِمانِ باللّهِ لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادتِهِم وَما اعْتَدَيْنا إنّا إذَنْ لَمِنَ الظّالِمِينَ": فيُقسم الاخران اللذان يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما بخيانتهما مال الميت الأوليان باليمين والميت من الخائنين:"لَشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما ": لأيماننا أحقّ من أيمان المقسمين المستحقين الإثم وأيمانهما الكاذبة في أنهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميتنا، وكذا في أيمانهما التي حلفا بها. "وَما اعْتَدَيْنا": وما تجاوزنا الحقّ في أيماننا. وقد بينا أن معنى الاعتداء: المجاوزة في الشيء حدّه. "إنّا إذَن لَمِنَ الظّالِمِينَ" يقول: إنا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين، "لمِنَ الظّالِمِينَ ": لَمِنْ عِدَادِ مَن يأخذ ما ليس له أخذه، ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) يريد، والله أعلم، أن يشهد عليهما شاهدان منا أو منهم بشيء جحداه أنه من تركة الميت، فهذا استحقاق الورثة. فإذا قال المدعي قبلهما: اشتريناه من الميت فعلى الورثة أن يحلفوا. فهذا، والله أعلم، معنى: (فآخران يقومان مقامهما) لأن الورثة صاروا مدعى عليهم، فقاموا في هذه الحال في وجوب اليمين عليهم مقام الأولين لما كانت الدعوى عليهم. فهذا، والله أعلم، أقرب الوجوه في تأويل الآية وأشبهها؛ ...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

يعني ظهور شيء من مال الميت في أيديهما بعد ذلك، وهو جَامُ الفضة الذي ظهر في أيديهما من مال الميت، فزعما أنهما كانا اشترياه من مال الميت. ثم قال تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُما} يعني في اليمين، لأنهما صارا في هذه الحال مدعيين للشِّرَى، فصارت اليمين على الورثة، وعلى أنه لم يكن للميت إلاّ وارثان فكانا مُدَّعًى عليهما، فلذلك استُحْلِفا، ألا ترى أنه قال: {مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأُولَيَانِ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يعني أن هذه اليمين أوْلى من اليمين التي حلف بها الوصيان أنهما ما خانا ولا بدّلا، لأن الوصيين صارا في هذه الحال مُدَّعِيَيْنِ وصار الوارثان مدَّعًى عليهما، وقد كانا برئا في الظاهر بدياً بيمينهما فمضت شهادتهما على الوصية، فلما ظهر في أيديهما شيءٌ من مال الميت صارت أيمان الوارثين أوْلى. وقد اختُلف في تأويل قوله تعالى: {الأُولَيَانِ}، فرُوي عن سعيد بن جبير قال: معنى الأولَيَانِ بالميت يعني الورثة، وقيل: الأوْليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع؛ وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به، وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادّعَى الورثة عليهما الخيانة وأخْذَ شيء من تركة الميت، فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيماناً...

وقوله بعد ذلك: {فَيُقْسِمَانِ باللّهِ} لا يحتمل غير اليمين، ثم قال: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأُولَيَانِ فَيُقْسِمَانِ باللهِ لَشَهَادَتُنَا} يعني بها اليمين؛ لأن هذه أيمان الوارثين، وقوله: {أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يحتمل من يمينهما ويحتمل من شهادتهما، لأن الوصيين قد كان منهما شهادة ويمين، وصارت يمين الوارث أحقَّ من شهادة الوصيين ويمينها، لأن شهادتهما لأنفسهما غير جائزة ويميناهما لم توجب تصحيح دعواهما في شراء ما ادّعيا شراه من الميت...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يعني فإن ظهر على أنهما كَذَبَا وخَانَا، فعبر عن الكذب بالخيانة والإِثم لحدوثه عنهما. وفي الذين: {عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} قولان: أحدهما: أنهما الشاهدان، قاله ابن عباس. والثاني: أنهما الوصيان، قاله سعيد بن جبير. {فَآخَرَان} يعني من الورثة. {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} في اليمين، حين ظهرت الخيانة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَإِنْ عُثِرَ} فإن اطلع {على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} أي فعلا مّا أوجب إثماً، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين {فَآخَرَانِ} فشاهدان آخران {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ} أي من الذين استحق عليهم الإثم. معناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرتهم...

{الأوليان} الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما... ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقّ بها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والذي يظهر هنا أن الإثم عل بابه، وهو الحكم اللاحق لهما والنسبة التي يتحصلان فيها بعد مواقعتها لتحريف الشهادة أو لأخذ ما ليس لهما أو نحو ذلك، و {استحقا} معناه استوجباه من الله وكانا أهلاً له فهذا استحقاق على بابه، أنه استيجاب حقيقة، ولو كان الإثم الشيء المأخوذ لم يقل فيه «استحقا» لأنهما ظلما وخانا فيه، فإنما استحقا منزلة السوء وحكم العصيان، وذلك هو الإثم، وقوله تعالى: {فآخران} أي فإذا عثر على فسادهما فالأوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم أو ظهورهم أو مالهم أو ما شئت من هذه التقديرات...

وسمي المأخوذ إثماً كما يقال لما يؤخذ من المظلوم مظلمة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فإن} ولما كان المراد مجرد الاطلاع بني للمفعول قوله: {عثر} أي اطلع مطلع بقصد أو بغير قصد؛ قال البغوي: وأصله الوقوع على الشيء أي من عثرة الرجل {على أنهما} أي الشاهدين إن أريد بهما الحقيقة أو الوصيين {استحقا إثماً} أي بسبب شيء خانا فيه من أمر الشهادة {فآخران} أي من الرجال الأقرباء للميت {يقومان مقامهما} أي ليفعلا حيث اشتدت الريبة من الإقسام عند مطلق الريبة ما فعلا {من الذين استحق} أي طلب وقوع الحق بشهادة من شهد {عليهم} هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة حفص بالبناء للفاعل، المعنى: وجد وقوع الحق عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته.

ولما كان كأنه قيل: ما منزلة هذين الآخرين من الميت؟ فقيل: {الأوليان} أي الأحقان بالشهادة الأقربان إليه العارفان بتواطن أمره، وعلى قراءة أبي بكر وحمزة بالجمع، كأنه قيل: هما من الأولين أي في الذكر وهم أهل الميت، فهو نعت للذين استحق {فيقسمان} أي هذان الآخران {بالله} أي الملك الذي لا يقسم إلا به لما له من كمال العلم وشمول القدرة {لشهادتنا} أي بما يخالف شهادة الحاضرين للواقعة {أحق من شهادتهما} أي أثبت، فإن تلك إنما ثباتها في الظاهر، وشهادتنا ثابتة في نفس الأمر وساعدها الظاهر بما عثر عليه من الريبة {وما اعتدينا} أي تعمدنا في يميننا مجاوزة الحق {إنا إذاً} أي إذا وقع منا اعتداء {لمن الظالمين} أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام، وهذا إشارة إلى أنهم على بصيرة ونور مما شهدوا به، وذلك أنه لما وجد الإناء الذي فقده أهل الميت وحلف الداريان بسببه أنهما ما خانا طالبوهما، فقالا: كنا اشتريناه منه، فقالوا: ألم نقل لكما: هل باع صاحبنا شيئاً؟ فقلتما: لا، فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر فقام اثنان من أقارب الميت فحلفا على الإناء، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إليهما، لأن الوصيين ادعيا على الميت البيع فصار اليمين في جانب الورثة لأنهم أنكروا، وسمي أيمان الفريقين شهادة كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة -نبه على ذلك الشافعي، وكان ذلك لما في البابين من مزيد التأكيد.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} قرأ الجمهور «استحق» بضم التاء على البناء للمفعول، وحفص عن عاصم بفتح التاء بالبناء للفاعل وهي مروية عن علي وابن عباس وأبي، وقرأ يعقوب وخلف وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه (الأولين) جمع الأول الذي يقابله آخر، مع قراءتهم استحق بالبناء للمفعول، وقرأه الباقون (الأوليان) مثنى الأولى سواء منهم من قرأ استحق بالبناء للمفعول ومن قرأه بالبناء للفاعل، ورسم الأوليان والأولين في المصحف الإمام واحد وهو هكذا (الأولين). والمعنى فإن اتفق الاطلاع على أن الشهيدين المقسمين استحقا إثما بالكذب أو الكتمان في الشهادة أو بالخيانة وكتمان شيء من التركة في حالة ائتمانهما عليها – كما ظهر في الواقعة التي كانت سبب النزول – فالواجب أو فالذي يعمل لإحقاق الحق هو أن يرد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الذين استحق ذلك الإثم بالإجرام عليهم والخيانة لهم، وهذان الرجلان الوارثان ينبغي أن يكونا هما الأوليين بالميت أي الأقربين إليه الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع – كما تفيده قراءة الجمهور – أو غيرهما منهم كما تفيده قراءة من قرأ (الأولين) وهو صفة للذين استحق عليهم أو منصوب على الاختصاص.

وتحمل القراءة الأولى على طلب الأكمل وهو أن يشهد أقرب الورثة إلى الميت. والقراءة الثانية على ما إذا منع مانع من إقسام أقرب الورثة أو كانت المصلحة في حلف غيره منهم لامتيازه بالسن أو الفضيلة، هذا إذا أريد بالأوليين الأوليان بأمر الميت الموصي، ويجوز أن يراد بهما الأوليان بالقسم في هذه الحالة، أي أجدر الورثة باليمين لقربهما من الميت أو لعلمهما أو لفضلهما. وأما قراءة حفص عن عاصم – وبها يقرأ أهل بلادنا – فقال أكثر المفسرين في توجيهها أن «الأوليان» فيها فاعل استحق والمفعول محذوف والتقدير: من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بأمر الميت منهم ما أوصى به أو ما تركه – أو ندبهما للشهادة.

وذهب الإمام الرازي إلى أن الأوليين في هذه القراءة هما الوصيان قال: ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما – بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان، وقرأ الحسن الأولان ووجهه ظاهر مما تقدم اهـ.

أقول: الوجه عندي في ذلك أنهما الأوليان باليمين في الأصل لأنهما منكران واليمين على من أنكر، وكان المقام مقام الإضمار – بأن يقال: من الذين استحقا عليهم الإثم – فوضع المظهر وهو الأوليان موضع الضمير لإفادة أن الأصل في الشرع أن تكون اليمين عليهما ولكن استحقاقهما الإثم بما ظهر من حنثهما اقتضى ردها أي اليمين إلى الورثة {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا} أي يحلفان على أن ما يشهدان به من خيانة الشهيدين اللذين شهدا على وصية ميتهما أحق وأصدق من شهادتهما بما كانا شهدا به، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة أو ما اعتديا الحق فيما اتهموهما به {إنا إذا لمن الظالمين} أي ويقولان في قسمهما إنا إذا اعتدينا الحق وقلنا الباطل لداخلون في عداد الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وانتقامه، والظالمين لمن ائتمنه ميتهم، وظلمهما محرم عليهم.