{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
هذه الآيات [ الكريمات ] ، مشتملات على جملة كثيرة واسعة ، من أوصاف الباري العظيمة ، فذكر كمال ألوهيته تعالى ، وسعة غناه ، وافتقار جميع الخلائق إليه ، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها ، وأن الملك كله لله ، فلا يخرج مخلوق عن ملكه ، والحمد كله له ، حمد على ما له من صفات الكمال ، وحمد على ما أوجده من الأشياء ، وحمد على ما شرعه من الأحكام ، وأسداه من النعم .
1- سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون في ترتيب المصحف ، أما نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم فكان –كما ذكره صاحب الإتقان بعد سورة " الجمعة " وقبل سورة " الصف " وعدد آياتها ثماني عشرة آية .
2- وجمهور المفسرين على أنها من السور المدنية .
قال الشوكاني : وهي مدنية في قول الأكثر ، وقال الضحاك : هي مكية ، وقال الكلبي : هي مكية ومدنية .
أخرج ابن الضريس عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة التغابن بالمدينة .
وفي رواية أخرى عنه : أنها نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ، شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم . . ] إلى آخر السورة( {[1]} ) .
ويبدو لنا أن بعض آيات هذه السورة يغلب عليها طابع القرآن المكي ، كالآيات التي تتحدث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- وعن إنكار المشركين للبعث والرد عليهم .
لذا نرجح –والله أعلم- أن النصف الأول منها من القرآن المكي ، والنصف الأخير من القرآن المدني .
3- والسورة الكريمة بعد ذلك من أهم مقاصدها : تنزيه الله –تعالى- عن الشريك أو الولد ، وبيان ألوان من مظاهر قدرته ومنته على خلقه ، والرد على المشركين الذين زعموا أنهم لن يبعثوا ، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، وبيان أن كل شيء يقع في هذا الكون هو بقضاء الله وقدره . وتحريض المؤمنين على تقوى الله –تعالى- وعلى إيثار ما عنده على كل شيء من شهوات هذه الدنيا .
سورة " التغابن " هى آخر السور المفتتحة بالتسبيح ، فقد قال - سبحانه - فى مطلعها .
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . . } أى : ينزه الله - تعالى - عن كل نقص ، ويجله عن كل مالا يليق به ، جميع الكائنات التى فى سماواته - سبحانه - وفى أرضه ، كما قال - عز وجل - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وجىء هنا وفى سورة الجمعة بصيغة المضارع { يُسَبِّحُ } للدلالة على تجدد هذا التسبيح ، وحدوثه فى كل وقت وآن .
وجىء فى سورة الحديد ، والصف ، بصيغة الماضى ( سَبَّحَ ) . للدلالة على أن التسبيح قد استقر وثبت لله - تعالى - وحده ، من قديم الزمان .
وقوله - سبحانه - : { لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } مؤكد لما قبله ، من بيان أن جميع الكائنات تسبح لله - تعالى - لأنه مالكها وصاحب الفضل المطلق عليها .
وتقديم الجار والمجرور { لَهُ } لإفادة الاختصاص والقصر .
أى : له - سبحانه - وحده ملك هذا الكون ، وله وحده الحمد التام المطلق من جميع مخلوقاته ، وليس لغيره شىء منهما ، وإذا وجد شىء منهما لغيره فهو من فيضه وعطائه ، إذ هو - سبحانه - القدير الذى لا يقف فى وجه قدرته وإرادته شىء .
قال بعض المفسرين هي مدنية وقال آخرون هي مكية إلا من قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إن أزواجكم وأولادكم } [ التغابن : 14 ] إلى آخر السورة فإنه مدني{[1]} وذكر الثعلبي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مولود يولد إلا في تشابيك رأسه خمس آيات من فاتحة سورة التغابن{[2]} .
قوله تعالى : { وهو على كل شيء قدير } عموم معناه التنبيه ، والشيء : الموجود .
سميت هذه السورة { سورة التغابن } ولا تعرف بغير هذا الاسم ولم ترد تسميتها بذلك في خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي عن ابن عمر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مولود إلا وفي تشابيك مكتوب خمس آيات فاتحة سورة التغابن . والظاهر أن منتهى هذه الآيات قوله تعالى { والله عليم بذات الصدور } فتأمله . ورواه القرطبي عن ابن عمر ولم ينسبه إلى التعليق فلعله أخذه من تفسير ابن عطية .
ووجه التسمية وقوع لفظ { التغابن } فيها ولم يقع في غيرها من القرآن .
وهي مدنية في قول الجمهور وعن الضحاك هي مكية . وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس أن تلك الآيات نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا الهجرة فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث . وقال مجاهد : نزلت في شأن عوف الأشجعي كما سيأتي .
وهي معدودة السابعة والمائة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الجمعة وقبل سورة الصف بناء على أنها مدنية .
واشتملت هذه السورة على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله ، أي تنزهونه عن النقائض تسبيحا متجددا .
وأن الملك لله وحده فهو الحقيق بأفراده بالحمد لأنه خالق الناس كلهم فآمن بوحدانيته ناس وكفر ناس ولم يشكروا نعمة إذ خلقهم في أحسن صورة وتحذيرهم من إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
وإنذارهم على ذلك ليعتبروا بما حل بالأمم الذين كذبوا رسلهم وجحدوا بيناتهم تكبرا أن يهتدوا بإرشاد بشر مثلهم .
والإعلام بأن الله عليم بالظاهر والخفي في السماوات والأرض فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته .
وأنحى عليهم إنكار البعث وبين لهم عدم استحالته وهددهم بأنهم يلقون حين يبعثون جزاء أعمالهم فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده وليصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي جاء به ويؤمنوا بالبعث فإنهم إن آمنوا كفرت عنهم سيئاتهم وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها .
ثم تثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من ضر أهل الكفر بهم فليتوكلوا على الله في أمورهم .
وتحذير المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم تحذيرا من أن يثبطوهم عن الإيمان والهجرة .
وعرض لهم بالصبر على أموالهم التي صادرها المشركون .
وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يرضون بها ربهم وبتقوى الله والسمع له والطاعة .
لما كان جُلّ ما اشتملت عليه هذه السورة إبطالَ إشراك المشركين وزجرهم عن دين الإِشراك بأسره وعن تفاريعه التي أعظمها إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيب القرآن وتلك أصول ضلالهم ابتُدئت السورة بالإِعلان بضلالهم وكفرانهم المنعم عليهم ، فإن ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى عن النقائص : إما بلسان المقال مثل الملائكة والمؤمنين أو بلسان الحال مثل عبادة المطيعين من المخلوقات المدركة كالملائكة والمؤمنين ، وإما بلسان الحال مثل دلالة حال الاحتياج إلى الإِيجاد والإِمداد كحاجة الحيوان إلى الرزق وحاجة الشجرة إلى المطر وما يشهد به حال جميع تلك الكائنات من أنها مربوبة لله تعالى ومسخرة لما أراده منها . وكل تلك المخلوقات لم تنقض دلالة حالها بنقائض كفر مقالها فلم يخرج عن هذا التسبيح إلا أهل الضلال من الإِنس والشياطين فإنهم حَجبوا بشهادة حالهم لما غشوها به من صرح الكفر .
فالمعنى : يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك .
وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويكون لهم تعليماً وامتناناً ويفيد ثانياً بطريق الكناية تعريضاً بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء .
وجيء بفعل التسبيح مضارعاً للدلالة على تجدّد ذلك التسبيح ودوامه وقد سبق نظيره في فاتحة سورة الجمعة .
وجيء به في فواتح سُور : الحديد ، والحشر ، والصف بصيغة الماضي للدلالة على أن التسبيح قد استقر في قديم الأزمان . فحصل من هذا التفنن في فواتح هذه السورة كلا المعنيين زيادة على ما بيناه من المناسبة الخاصة بسورة الجمعة ، وما في هاته السورة من المناسبة بين تجدد التسبيح والأمر بالعفو عن ذوي القربى والأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة والسمع والطاعة لكي لا يكتفي المؤمنون بحصول إيمانهم ليجتهدوا في تعزيزه بالأعمال الصالحة .
وإعادة { ما } الموصولة في قوله : { وما في الأرض } لقصد التوكيد اللفظي .
وجملة { له الملك } استئناف واقع موقع التعليل والتسبب لمضمون يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض فإن ملابسة جميع الموجودات لدلائل تنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن النقائص لا مقتضى لها إلا انفرادُه بتملكها وإيجادها وما فيها من الاحتياج إليه وتصرفه فيها تصرف المالك المتفرد في ملكه .
وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح .
فتقديم المسند على المسند إليه لإِفادة تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بما لغير الله من ملك لنقصه وعدم خلوّه عن الحاجة إلى غيره من هو له بخلاف ملكه تعالى فهو الملك المطلق الداخل في سلطانه كل ذي ملك .
وجملة { وله الحمد } مضمونها سبب لتسبيح الله ما في السماوات وما في الأرض ، إذ التسبيح من الحمد ، فلا جرم أن كان حمد ذوي الإِدراك مختصاً به تعالى إذ هو الموصوف بالجميل الاختياري المطلق فهو الحقيق بالحمد والتسبيح .
فهذا القصر ادعائي لعدم الاعتداد بحمد غيره لنقصان كمالاتهم وإذا أريد بالحمد ما يشمل الشكر أو يفضي إليه كما في الحديث « الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده » وهو مقتضى المقام من تسفيه أحلام المشركين في عبادتهم غيره فالشكر أيضاً مقصور عليه تعالى لأنه المنعم الحق بنعم لا قبل لغيره بإسدائها ، وهو المفيض على المنعمين ما ينعمون به في الظاهر ، قال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] كما تقدم في تفسير أول سورة الفاتحة .
وجملة { وهو على كل شيء قدير } معطوفة على اللتين قبلها وهي بمنزلة التذييل لهما والتبيين لوجه القصرين فيهما ، فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق .
وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين .
والاقتصار على ذكر وَصف { قدير } هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولاً لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة التغابن مدنية، وفيها مكي...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
مكية إلاّ قوله (يا أيّها الذّين آمنوا إنّ من أزواجكم) الآية...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قال عطاء هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم} إلى (آخرهن)...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال بعض المفسرين هي مدنية، وقال آخرون هي مكية إلا من قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إن أزواجكم وأولادكم} [التغابن: 14] إلى آخر السورة فإنه مدني...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الإبلاغ في التحذير مما حذرت منه المنافقون بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك للدينونة على النقير والقطمير يوم القيامة يوم الجمع الأعظم، واسمها التغابن واضح الدلالة على ذلك وهو أدل ما فيها عليه فلذلك سميت به...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة أشبه شيء بالسور المكية في موضوعها وفي سياقها وفي ظلالها وإيحاءاتها، وبخاصة المقاطع الأولى منها، فلا يكاد الجو المدني يتبين إلا في فقراتها الأخيرة.
والفقرات الأولى إلى ابتداء النداء: يا أيها الذين آمنوا.. تستهدف بناء أسس العقيدة، وإنشاء التصور الإسلامي في القلوب بأسلوب السور المكية التي تواجه الكفار المشركين ابتداء، وتخاطبهم بهذا التصور خطاب المبتدئ في مواجهته. ثم هي تستخدم المؤثرات الكونية والنفسية كما تستعرض مصائر الغابرين من المكذبين قبلهم؛ وتعرض عليهم مشاهد القيامة لإثبات البعث، وتوكيده توكيدا شديدا، يدل على أن المخاطبين به من المنكرين الجاحدين.
فأما الفقرات الأخيرة فهي تخاطب الذين آمنوا بما يشبه خطابهم في السور المدنية، لحثهم على الإنفاق، وتحذرهم فتنة الأموال والأولاد. وهي الدعوة التي تكررت نظائرها في العهد المدني بسبب مقتضيات الحياة الإسلامية الناشئة فيها. كما أن فيها ما قد يكون تعزية عن مصاب أو تكاليف وقعت على عاتق المؤمنين، ورد الأمر فيها إلى قدر الله، وتثبيت هذا التصور.. وهو ما يتكرر في السور المدنية وبخاصة بعد الأمر بالجهاد وما ينشأ عنه من تضحيات.
ولقد وردت روايات أن السورة مكية، ووردت روايات أخرى أنها مدنية مع ترجيحها. وكدت أميل إلى اعتبارها مكية تأثرا بأسلوب الفقرات الأولى فيها وجوها. ولكني أبقيت اعتبارها مدنية -مع الرأي الراجح فيها- لأنه ليس ما يمنع أن تكون الفقرات الأولى فيها خطابا للكفار بعد الهجرة سواء كانوا كفار مكة أم الكفار القريبين من المدينة. كما أنه ليس ما يمنع أن يستهدف القرآن المدني في بعض الأحيان جلاء أسس العقيدة، وإيضاح التصور الإسلامي، بهذا الأسلوب الغالب على أسلوب القرآن المكي.. والله أعلم..
والمقطع الأول في السورة يستهدف بناء التصور الإيماني الكوني، وعرض حقيقة الصلة بين الخالق -سبحانه- وهذا الكون الذي خلقه. وتقرير حقيقة بعض صفات الله وأسمائه الحسنى وأثرها في الكون وفي الحياة الإنسانية:
(يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير. خلق السماوات والأرض بالحق، وصوركم فأحسن صوركم، وإليه المصير. يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون. والله عليم بذات الصدور)..
وهذا التصور الكوني الإيماني هو أدق وأوسع تصور عرفه المؤمنون في تاريخ العقيدة. ولقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية الله، وإنشائه لهذا الوجود ولكل مخلوق، ورعايته لكل كائن في الوجود.. لا نشك في هذا لأن القرآن يحكيه عن الرسل وعن الرسالات كلها. ولا عبرة بما نجده في الكتب المفتراة والمحرفة؛ أو فيما يكتبه عن الديانات المقارنة أناس لا يؤمنون بالقرآن كله أو بعضه. إنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص، أو لم تأت بهيمنة الله واتصاله بكل كائن. فهذا من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة. فدين الله واحد منذ أولى الرسالات إلى خاتمة الرسالات. ويستحيل أن ينزل الله دينا يخالف هذه القواعد، كما يزعم الزاعمون بناء على ما يجدونه في كتب مفتراة أو محرفة باسم الدين!
ولكن تقرير هذه الحقيقة لا ينافي أن التصور الإسلامي عن الذات الإلهية، وصفاتها العلوية، وآثار هذه الصفات في الكون وفي الحياة الإنسانية.. أن هذا التصور أوسع وأدق وأكمل من كل تصور سابق في الديانات الإلهية.. وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة. ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه؛ وتنشئ فيه هذا التصور الشامل الكامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره.
ومن شأن هذا التصور أن يدرك القلب البشري -بمقدار ما يطيق- حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية ويراها في آثارها المشهودة في الكون، ويحسها في ذوات الأنفس بآثارها المشهودة والمدركة؛ ويعيش في مجال هذه القدرة وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام. ويراها محيطة بكل شيء، مهيمنة على كل شيء، مدبرة لكل شيء، حافظة لكل شيء، لا يند عنها شيء. سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير.
ومن شأنه كذلك أن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة، وتوفز دائم، وخشية وارتقاب، وطمع ورجاء؛ وأن يمضي في الحياة معلقا في كل حركة وكل خالجة بالله، شاعرا بقدرته وهيمنته، شاعرا بعلمه ورقابته، شاعرا بقهره وجبروته، شاعرا برحمته وفضله، شاعرا بقربه منه في كل حال.
وأخيرا فإن من شأنه أن يحس بالوجود كله متجها إلى خالقه فيتجه معه، مسبحا بحمد ربه فيشاركه تسبيحه، مدبرا بأمره وحكمته فيخضع لشريعته وقانونه.. ومن ثم فهو تصور إيماني كوني بهذا المعنى، وبمعان أخرى كثيرة تتجلى في المواضع المتعددة في القرآن التي تضمنت عرض جوانب من هذا التصور الإيماني الشامل الكامل المحيط الدقيق. وأقرب مثل منها ما ورد في ختام سورة الحشر، في هذا الجزء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووجه التسمية وقوع لفظ {التغابن} فيها ولم يقع في غيرها من القرآن...
أغراضها: واشتملت هذه السورة على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله، أي تنزهونه عن النقائض تسبيحا متجددا. وأن الملك لله وحده فهو الحقيق بإفراده بالحمد لأنه خالق الناس كلهم فآمن بوحدانيته ناس وكفر ناس ولم يشكروا نعمة إذ خلقهم في أحسن صورة وتحذيرهم من إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم...
. والإعلام بأن الله عليم بالظاهر والخفي في السماوات والأرض فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته. وأنحى عليهم إنكار البعث وبين لهم عدم استحالته وهددهم بأنهم يلقون حين يبعثون جزاء أعمالهم فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده وليصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي جاء به ويؤمنوا بالبعث فإنهم إن آمنوا كفرت عنهم سيئاتهم وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها. ثم تثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من ضر أهل الكفر بهم فليتوكلوا على الله في أمورهم. وتحذير المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم تحذيرا من أن يثبطوهم عن الإيمان والهجرة. وعرض لهم بالصبر على أموالهم التي صادرها المشركون. وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يرضون بها ربهم وبتقوى الله والسمع له والطاعة...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تقرير تسبيحي وتنزيهي من كل ما في السماوات والأرض لله. وإشارة إلى خضوع كل شيء له. ومظاهر عظمته وقدرته في الكون والخلق وشمول علمه. وتذكير بالكافرين السابقين ونكال الله فيهم، وحكاية لإنكار الكفار للبعث وتوكيده وإنذار به، وتوطيد لواجب الطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيل الله. وتحذير من أن يكون الأولاد والأزواج والأموال من المانعين لذلك. والسورة من السور التي يختلف الرواة في مكيتها ومدنيتها. غير أن معظم روايات ترتيب نزول السور تسلكها في سلك السور المدنية. ومنها المصحف الذي اعتمدنا عليه. وفحوى آيات السورة يؤيد مدنيتها، ويؤيد كونها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. ومن الفحوى الذي يدل على مدنيتها الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من الزوجات والأولاد فهذا أسلوب مدني. والله أعلم. وبعض الروايات التي تذكر أنها مكية أن الآيات (14 -16) مدنية وآيات السورة منسجمة مع هذه الآيات بحيث يسوغ القول: إنها سياق واحد نزلت في ظرف واحد. وليس في السورة علامة مميزة تساعد على القول بصحة ترتيب نزولها بعد سورة التحريم وعدمه. وقد جعلناها بعد سورة التحريم أخذا برواية المصحف الذي اعتمدنا عليه وبعض روايات التراتيب الأخرى والله أعلم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...يمكن تقسيم هذه السورة من حيث المواضيع التي احتوتها إلى عدّة أقسام: 1 بداية السورة التي تبحث في التوحيد وصفات وأفعال الله تعالى.
حثّ الناس على ملاحظة أعمالهم ظاهراً وباطناً، وأن لا يغفلوا عن مصير الأقوام السابقين. 3 في قسم آخر من السورة يجري الحديث عن المعاد، وأنّ يوم القيامة «يوم تغابن»، تغبن فيه جماعة وتفوز فيه جماعة، واسم السورة مشتقّ من هذا المفهوم. 4 الأمر بطاعة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحكيم قواعد النبوّة.
ويأمر الله تبارك وتعالى في القسم الأخير من السورة بالإنفاق في سبيله، ويحذّر من الانخداع بالأموال والأولاد والزوجات.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يسبح لله} يعني يذكر الله {ما في السماوات} من الملائكة {وما في الأرض} من شيء من الخلق غير كفار الجن والإنس {له الملك} لا يملك أحد غيره {وله الحمد} في سلطانه عند خلقه {وهو على كل شيء} أراده {قدير}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يسجد له ما في السموات السبع وما في الأرض من خلقه ويعظمه. وقوله:"لَهُ المُلْكُ "يقول تعالى ذكره: له ملك السموات والأرض وسلطانه ماض قضاؤه في ذلك نافذ فيه أمره.
وقوله: "وَلَهُ الحَمْدُ" يقول: وله حمد كلّ ما فيها من خلق، لأن جميع من في ذلك من الخلق لا يعرفون الخير إلا منه، وليس لهم رازق سواه فله حمد جميعهم. "وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يقول: وهو على كلّ شيء ذو قدرة، يقول: يخلق ما يشاء، ويميت من يشاء، ويغني من أراد، ويفقر من يشاء ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، لا يتعذرّ عليه شيء أراده، لأنه ذو القدرة التامة التي لا يعجزه معها شيء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به، والمهيمن عليه؛ وكذلك الحمد، لأنّ أصول النعم وفروعها منه. وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وهو على كل شيء قدير} عموم معناه التنبيه...
{له الملك وله الحمد} معناه إذا سبح لله ما في السماوات وما في الأرض فله الملك وله الحمد، ولما كان له الملك فهو متصرف في ملكه والتصرف مفتقر إلى القدرة فقال: {والله على كل شيء قدير}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يسبح} أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار {لله} الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {ما في السماوات} الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء منه شيئاً إلا كان على وفق الإرادة، فكان لذلك الكون والكائن شاهداً له بالبراءة عن كل شائبة نقص...
. {وما في الأرض} أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه... {له} أي وحده {الملك} أي كله مطلقاً في الدنيا والآخرة، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور والحبور من الإبداع والإعدام...
{وله} أي وحده {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته، فمن فهم تسبيحها فذلك المحسن، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه {وهو} أي وحده {على كل شيء} أيّ شيء أي ممكن أن يتعلق به المشيئة {قدير} لأنه وحده بكل شيء مطلقاً عليم، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جداً، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه بالكمال وقوة السلطان والجلال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كل ما في السماوات والأرض متوجه إلى ربه، مسبح بحمده؛ وقلب هذا الوجود مؤمن، وروح كل شيء في هذا الوجود مؤمنة، والله مالك كل شيء. وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة. والله محمود بذاته ممجد من مخلوقاته...
(وهو على كل شيء قدير).. فهي القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بقيد. وهي حقيقة يطبعها القرآن في القلب المؤمن فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه فإنما يركن إلى قدرة تفعل ما تشاء، وتحقق ما تريد. بلا حدود ولا قيود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمعنى: يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك. وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويكون لهم تعليماً وامتناناً ويفيد ثانياً بطريق الكناية تعريضاً بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء. وجيء بفعل التسبيح مضارعاً للدلالة على تجدّد ذلك التسبيح ودوامه...
. وإعادة {ما} الموصولة في قوله: {وما في الأرض} لقصد التوكيد اللفظي...
.وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح. فتقديم المسند على المسند إليه لإِفادة تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره...
فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق. وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين. والاقتصار على ذكر وَصف {قدير} هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولاً لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
... بعدما سجلت فاتحة هذه السورة توجّه جميع المخلوقات إلى ربها بالتنزيه والحمد: {يسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}، إن لم يكن منها كلها بلسان المقال، فبلسان الحال في كل الأحوال، انتقلت الآيات الكريمة إلى التعبير عن حقيقة طبيعية ونفسية ميز الله بها الإنسان من بين المخلوقات، ألا وهي تزويده بالاستعداد التام، للاتجاه نحو الخير إن أراده، والاتجاه نحو الشر إن رغب فيه، وجعله حرا في اختيار ما يشاء من الهدى أو الضلال، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}، أي أن من اختار الكفر منكم كفر، ومن اختار الإيمان منكم آمن، ومن حرية الاختيار التي زود الله بها الإنسان نشأت مسؤوليته عن عمله، وجزاؤه خيرا إن عمل خيرا، وشرا إن عمل شر. أما من ناحية الخلق والتكوين فقد خلق الله الإنسان متساويا مزودا بنفس الملكات اللازمة، ونفس الأجهزة الضرورية، وله بعد ذلك أن يختار، وعليه أن يتحمل مسؤولية اختياره في الدنيا وفي الآخرة، وقد جاء التعقيب المناسب على ذلك بقوله تعالى: {والله بما تعملون بصير}، أي: أنه سبحانه يحصي أعمالكم، ويراقب اختياراتكم، ثم يجازيكم عليها بما أنتم أهل له...