التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التغابن

في السورة تقرير تسبيحي وتنزيهي من كل ما في السماوات والأرض لله .

وإشارة إلى خضوع كل شيء له . ومظاهر عظمته وقدرته في الكون والخلق وشمول علمه . وتذكير بالكافرين السابقين ونكال الله فيهم ، وحكاية لإنكار الكفار للبعث وتوكيده وإنذار به ، وتوطيد لواجب الطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيل الله .

وتحذير من أن يكون الأولاد والأزواج والأموال من المانعين لذلك .

والسورة من السور التي يختلف الرواة في مكيتها ومدنيتها . غير أن معظم روايات ترتيب نزول السور تسلكها في سلك السور المدنية . ومنها المصحف الذي اعتمدنا عليه . وفحوى آيات السورة يؤيد مدنيتها ، ويؤيد كونها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة . ومن الفحوى الذي يدل على مدنيتها الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من الزوجات والأولاد فهذا أسلوب مدني . والله أعلم .

وبعض الروايات التي تذكر أنها مكية أن الآيات ( 14 16 ) مدنية{[1]} وآيات السورة منسجمة مع هذه الآيات بحيث يسوغ القول : إنها سياق واحد نزلت في ظرف واحد .

وليس في السورة علامة مميزة تساعد على القول بصحة ترتيب نزولها بعد سورة التحريم وعدمه . وقد جعلناها بعد سورة التحريم أخذا برواية المصحف الذي اعتمدنا عليه وبعض روايات التراتيب الأخرى{[2]} والله أعلم .

بسم الله الرحمان الرحيم .

{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 1 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 3 ) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 4 ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 5 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 6 ) } .

_عبارة الآيات واضحة ، والآيات الأربع الأولى منها احتوت تقريرا لعظمة ملك الله وقدرته ومطلق تصرفه في الكون وإتقان خلق الإنسان وتصويره على أحسن الصور ، وإحاطة علمه بكل شيء وخضوع كل شيء له واستحقاقه وحده للحمد والتقديس ، وقد انطوى في الآية الثانية على ما يتبادر من روحها تقرير لواقع المخاطبين ؛ حيث كان منهم الكافر وكان المؤمن وتقرير كون الله تعالى بصير بما يفعله كل منهم .

أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا تذكيرا بالكافرين من الأمم السابقة بأسلوب التساؤل الإنكاري التقريري عن ما جاء المخاطبين من أنبائهم ؛ حيث استنكروا أن يرسل الله بشرا رسلا ليهدوهم فكفروا نتيجة لذلك ، فذاقوا نكال الله في الدنيا فضلا عما أعده لهم من عذاب الآخرة الأليم مع تقرير كون الله مستغنيا عنهم ، وهو الغني عن خلقه الحميد لمن يشكروه ويؤمن به .

وواضح أن الآيات هي بسبيل دعوة السامعين إلى الله والاهتداء بالهدى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم . وقد جاء هذا بصراحة أكثر في الآيات التالية . وأسلوبها عام هادئ موجه إلى القلب والعقل معا .

وليس هناك روايات تروي سبب نزولها والمتبادر أنها تمهيد أو مقدمة لما جاء بعدها . والله أعلم .

وفي حكاية قول الكفار السابقين حينما كانت تأتيهم رسلهم { أبشر يهدوننا } تنديد بالكافرين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان يصدر منهم مثل هذا القول على ما حكته آيات عديدة في سور سابقة . منها آية الإسراء هذه { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا 93 وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا 94 } فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم إذا قلتم هذا فقد قاله أمثالكم من قبل ، وكان من أسباب كفرهم واستحقاقهم لنكال الله وعذابه . وإن الله لمستغن عنكم كما استغنى عمن قبلكم وهو الغني الحميد .

وفي جملة { وصوركم فأحسن صوركم } تذكير للإنسان بما ميزه الله على غيره من خلقه بالمميزات المتنوعة ، وبما يوجبه ذلك عليه من الاعتراف بفضله والاستجابة إلى دعوته . وقد انطوى هذا في آيات عديدة في سور سبق تفسيرها .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.