سورة التغابن{[1]}
مقصودها الإبلاغ في التحذير مما حذرت منه{[2]} المنافقون بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك للدينونة على النقير والقطمير يوم القيامة يوم الجمع الأعظم ، واسمها التغابن واضح الدلالة على ذلك [ و-{[3]} ] هو أدل ما فيها عليه فلذلك سميت{[4]} به ( بسم الله ) مالك الملك فلا كفوء له ولا مثيل ( الرحمن ) الذي وسع الخلائق بره الجليل ( الرحيم ) الذي خص ممن عمه بالبر قوما فوقهم للجميل .
لما ختمت تلك بإثبات القهر بنفوذ الأمر وإحاطة العلم ، افتتح هذه بإحاطة الحمد ودوام التنزه{[65641]} عن كل شائبة نقص ، إرشاداً إلى النظر في أفعاله والتفكر في مصنوعاته لأنه الطريق إلى معرفته ، وأما معرفته بكنه الحقيقة فمحال فإنه{[65642]} لا يعرف الشيء كذلك إلا مثله ولا مثل له ، فقال مؤكداً لما أفهمه{[65643]} أول الجمعة : { يسبح } أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار { لله } الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { ما في السماوات } الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء {[65644]}منه شيئاً{[65645]} إلا كان على وفق الإرادة ، فكان لذلك{[65646]} الكون والكائن شاهداً له بالبراءة عن كل شائبة نقص .
ولما كان الخطاب مع من{[65647]} تقدم في آخر المنافقين ممن هو محتاج إلى التأكيد ، قال مؤكداً بإعادة الموصول : { وما في الأرض } أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه ، وقد تقدم أن موافقة العاقل للأمر مثل موافقة غير العاقل للارادة ، فعليه أن يهذب نفسه غاية التهذيب فيكون في طاعته بامتثال الأوامر كطاعة غير العاقل {[65648]}في امتثاله{[65649]} لما يراد منه .
ولما ساق سبحانه ذلك الدليل النقلي على كمال نزاهته على وجه يفهم الدليل العقلي لمن له لب كما قال علي رضي الله عنه : لا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع ، كما لا تنفع الشمس و{[65650]}ضوء العين ممنوع ، وذلك لكونه سبحانه جعلهم مظروفين كما هو المشاهد ، والمظروف محتاج لوجود ظرفه قبله فهو عاجز فهو مسبح دائماً إن لم يكن بلسان قاله كان بلسان حاله ، وصانعه الغني عن الظرف فغيره سبوح ، علل{[65651]} ذلك بقوله : { له } أي وحده { الملك } أي{[65652]} كله مطلقاً في الدنيا والآخرة ، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها{[65653]} دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور والحبور من الإبداع والإعدام ، فهو أبلغ مما في الجمعة ، فإن الملك قد يكون ملكاً في الصورة ، وذلك الملك الذي هو ظاهر فيه لغيره ، فداوم التسيبح الذي اقتضته عظمة الملك هنا أعظم من ذلك الدوام .
ولما أتبعه في الجمعة التنزيه عن النقص ، أتبعه هنا الوصف بالكمال فقال : { وله } أي وحده { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته ، فمن فهم تسبيحها فذلك{[65654]} المحسن{[65655]} ، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم ، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه { وهو } أي وحده { على كل شيء } أيّ شيء أي ممكن أن يتعلق به المشيئة { قدير * } لأنه وحده بكل شيء مطلقاً عليم ، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جداً ، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه{[65656]} بالكمال وقوة السلطان والجلال .
وقال الإمام{[65657]} أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما بسط في السورتين قبل من حال من حمل التوراة من بني إسرائيل ثم لم يحملها ، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، وقلوبهم كفرا وعناداً متكاثفة الإظلام ، وبين خروج الطائفتين عن سواء السبيل المستقيم ، وتنكبهم عن هدى الدين القويم ، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم{[65658]} في الكفر بوسم الانفراد وسماً ينبىء عن عظيم ذلك الإبعاد ، سوى ما تناول غيرهم من أحزاب الكفار ، فأنبأ تعالى عن{[65659]} أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقين{[65660]} فقال تعالى { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات ، وأهل{[65661]} الكفر ذو طبقات ، وأهل النفاق أدونهم حالاً وأسوأهم كفراً وضلالاً " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم{[65662]} ولو لم تنطو{[65663]} سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم{ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها{[65664]} الأذل }[ المنافقين : 8 ] وقد أشار قوله تعالى{ يعلم ما في السماوات وما في الأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور }[ التغابن : 4 ] إلى ما قبله وبعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم مما{[65665]} لم تنطو عليه قلوبهم{ والله يشهد أن المنافقين لكاذبون }[ المنافقين : 1 ] واتخاذهم أيمانهم جنة{[65666]} وصدهم عن سبيل{[65667]} الله إلى ما وصفهم سبحانه به ، فافتتح سبحانه وتعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه سبحانه{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم }[ التوبة : 78 ] ثم قال تعالى :{ ويعلم ما تسرون وما تعلنون }[ التغابن : 4 ] فقرع ووبخ في عدة آيات ثم أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات ، وصدهم عن اعتبار المعجزات ، وأنه الكبر المهلك غيرهم ، فقال تعالى مخبراً عن سلفهم في هذا المرتكب ، ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب{ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا }[ التغابن : 6 ] ثم تناسج الكلام معرفاً بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله{ وبئس المصير }[ التغابن : 10 ] ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله - انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.