قوله تعالى : { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : ( بمفازاتهم ) بالألف على الجمع ، أي بالطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة . وقرأ الآخرون ( بمفازتهم ) على الواحد ، لأن المفازة بمعنى : الفوز أي : ينجيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة . قال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز ، والجمع مفازات كالسعادة والسعادات . { لا يمسهم السوء } لا يصيبهم المكروه .
ولما ذكر حالة المتكبرين ، ذكر حالة المتقين ، فقال : { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } أي : بنجاتهم ، وذلك لأن معهم آلة النجاة ، وهي تقوى اللّه تعالى ، التي هي العدة عند كل هول وشدة . { لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ } أي : العذاب الذي يسوؤهم { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فنفى عنهم مباشرة العذاب وخوفه ، وهذا غاية الأمان .
فلهم الأمن التام ، يصحبهم حتى يوصلهم إلى دار السلام ، فحينئذ يأمنون من كل سوء ومكروه ، وتجري عليهم نضرة النعيم ، ويقولون { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }
ثم بين - سبحانه - حال المؤمنين يوم القيامة ، بعد بيانه لحال الذين كذبوا على الله فقال : { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
ومفازتهم : اسم مصدر . أو مصدر ميمى . من فاز فلان بكذا ، إذا ظفر به ، ونال مراده منه .
أى ؛ وينجى الله - تعالى - بفضله ورحمته ، { الذين اتقوا } الشرك والمعاصى من عذاب جهنم ، { بِمَفَازَتِهِمْ } أى : بسبب فوزهم برضا الله - تعالى - ورحمته ، جزاء إيمانهم وتقواهم ، وقرأ حمزة والكسائى { بِمَفَازَتِهِمْ } بالجمع .
ويصح أن تكون الباء فى قوله : { بِمَفَازَتِهِمْ } للملابسة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الذين اتقوا . أى ينجيهما حالة كونهم متلبسين .
وقوله : { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يجوز أن يكون تفسيراً لذلك الفوز ، كأنه قيل : وما مظاهر فوزهم فكان الجواب : لا يمسهم السوء الذى يصيب غيرهم من الكافرين والعصاة ، ولا هم يحزنون على شئ تركوه خلفهم فى الدنيا .
ويجوز أن يكون حالا من الذين اتقوا . أى : ينجيهم بسبب مفازتهم ، حال كونهم لا يمسهم السوء ، أى : لا يمسهم شئ مما يكره لا فى الحال ولا فى الاستقبال ، ولا هم يحزنون على ما كان منهم فى الماضى .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد كرم المتقين تكريما عظيما ، حيث نجاهم من عذاب جهنم ، وجعلهم آمنين من كل ما يغمهم فى كل زمان أو مكان .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : هذه آية جامعة ، لأن الإِنسان إذا علم أنه لا يمسه السوء ، كان فراغ البال بحسب الحال ، وإذا علم أنه لا يحزن كان هادئ النفس عما وقع فى قلبه بسبب فوات الماضى ، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات .
وقد دلت الآية على أن المؤمنين ، لا ينالهم الخوف والرعب فى القيامة ، وتأكد هذا بقوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر . . }
ذكر الله تعالى المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من ذكر الكفرة ، وفي ذلك ترغيب في حالة المتقين ، لأن الأشياء تتبين بأضدادها .
وقرأ جمهور القراء : «بمفازتهم » وذلك على اسم الجنس ، وهو مصدر من الفوز . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكسر عن عاصم : «بمفازاتهم » على الجمع من حيث النجاة أنواع ، الأسباب مختلفة وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن والأعمش ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره : وينجي الله الذين اتقوا بأسباب أو بدواعي مفازاتهم . قال السدي : { بمفازتهم } بفضائلهم . وقال ابن زيد بأعمالهم .
عطف على جملة { ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } [ الزمر : 60 ] إلى آخرها ، أي وينجي الله الذين اتقوا من جهنم لأنهم ليسوا بمتكبرين . وهذا إيذان بأن التقوى تنافي التكبر لأن التقوى كمال الخُلق الشرعي وتقتضي اجتناب المنهيات وامتثال الأمر في الظاهر والباطن ، والكبرَ مرض قلبي باطني فإذا كان الكبر ملقياً صاحبه في النار بحكم قوله : { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } [ الزمر : 60 ] فضد أولئك ناجون منها وهم المتقون إذ التقوى تحول دون أسباب العقاب التي منها الكبر ، فالذين اتقوا هم أهل التقوى وهي معروفة ، ولذلك ففعل { اتَّقوا } منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول .
والمفازة يجوز أن تكون مصدراً ميمياً للفوز وهو الفلاح ، مثل المتاب وقوله تعالى : { إن للمتقين مفازاً } [ النبأ : 31 ] ، ولحاق التاء به من قبيل لحاق هاء التأنيث بالمصدر في نحو قوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] . وتقدم ذلك في اسم سورة الفاتحة وعند قوله تعالى : { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } في [ آل عمران : 188 ] ، والباء للملابسة ، أي متلبسين بالفوز أو الباء للسببية ، أي بسبب ما حصلوا عليه من الفوز . ويجوز أن تكون المفازة اسماً للفلاة ، كما في قول لبيد :
لِوِرْدٍ تقلص الغيطان عنه *** يبذ مفازة الخِمس الكمال
سميت مفازة باسم مكان الفوز ، أي النجاة وتأنيثها بتأويل البقعة ، وسموها مفازة باعتبار أن من حل بها سلم من أن يلحقه عدوّه ، كما قال العُديل :
ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساطٌ بأيدي أنا عجات عريض
تدافع الناس عنا حين نركبها *** من المظالم تدعى أمّ صبار
وعلى هذا المعنى فالباء بمعنى ( في ) . والمفازة : الجنة . وإضافة مفازة إلى ضميرهم كناية عن شدة تلبسهم بالفوز حتى عُرف بهم كما يقال : فاز فوز فلان .
وقرأ الجمهور { بمفازتهم } بصيغة المفرد . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { بمَفَازاتهم بصيغة الجمع وهي تجري على المعنيين في المفازة لأن المصدر قد يجمع باعتبار تعدد الصادر منه ، أو باعتبار تعدد أنواعه ، وكذلك تعدد أمكنة الفوز بتعدد الطوائف ، وعلى هذا فإضافة المفازة إلى ضمير الذين اتقوا } لتعريفها بهم ، أي المفازة التي علمتم أنها لهم وهي الجنة ، وقد عُلم ذلك من آيات وأخبار منها قوله تعالى : { إن للمقتين مفازاً حدائق وأعناباً وكواعب أتراباً } [ النبأ : 31 ، 33 ] .
وجملة { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } مبيِّنة لجملة { وينجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم } لأن نفي مسّ السوء هو إنجاؤهم ونفي الحزن عنهم نفي لأثر المس السوء . وجيء في جانب نفي السوء بالجملة الفعلية لأن ذلك لنفي حالة أهل النار عنهم ، وأهل النار في مسَ من السوء متجددٍ . وجيء في نفي الحزن عنهم بالجملة الاسمية لأن أهل النار أيضاً في حزن وغم ثابت لازم لهم .
ومن لطيف التعبير هذا التفنن ، فإن شأن الأسواء الجسدية تجدد آلامها وشأن الأكدار القلبية دوام الإحساس بها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.