مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ بِمَفَازَتِهِمۡ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (61)

فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال : { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } الآية ، قال القاضي المراد به من اتقى كل الكبائر إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله ، فيقال له : أمرك عجيب جدا فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى : { لو أن الله هداني لكنت من المتقين } وجب أن يحمل قوله ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } على الذين قالوا { لو أن الله هداني } فعلى هذا القانون لما تقدم قوله { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } .

ثم قال تعالى بعده { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب ، فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنه يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } وأن يكون قولك { الذين اتقوا } المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسدا ، فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة ، بل الحق أن تقول المتقي هو الآتي بالاتقاء ، والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء ، وبهذا الحرف قلنا الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره وهذا هو الكذب على الله تعالى ، فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم .

ثم قال تعالى : { بمفازتهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «بمفازاتهم » على الجمع ، والباقون بمفازتهم على التوحيد ، وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال : كلاهما صواب ، إذ يقال في الكلام قد تبين أمر القوم وأمور القوم ، قال أبو علي الفارسي : الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها ، كقوله تعالى :

{ وتظنون بالله الظنونا } ولا شك أن لكل متق نوعا آخر عن المفازة .

المسألة الثانية : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة ، فكأن المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات ، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها .

ثم قال : { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة ، كأنه قيل كيف ينجيهم ؟ فقيل : { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } وهذه كلمة جامعة لأنه إذا علم أنه لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قله بسبب فوات الماضي ، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات ، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه .

المسألة الثالثة : دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة ، وتأكد هذا بقوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } .