معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات } بساتين .

قوله تعالى : { معروشات وغير معروشات } أي : مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات . وقال ابن عباس : معروشات : ما انبسط على وجه الأرض . فانتشر مما يعرش مثل : الكرم والقرع والبطيخ وغيرها . وغير معروشات : ما قام على ساق ونسق ، مثل : النخل والزرع وسائر الأشجار .

وقال الضحاك : كلاهما من الكرم خاصة ، منها ما عرش ومنها ما لم يعرش .

قوله تعالى : { والنخل والزرع } ، أي : وأنشأ النخل والزرع .

قوله تعالى : { مختلفاً أكله } ، ثمره وطعمه ، منها الحلو والحامض ، والجيد ، والرديء . قوله تعالى : { والزيتون والرمان متشابهاً } ، في النظر .

قوله تعالى : { وغير متشابه } ، في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف .

قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر } ، هذا أمر إباحة .

قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } ، قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم { حصاده } بفتح الحاء ، وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد ، كالصرام والصرام ، والجذار والجذاز . واختلفوا في هذا الحق ، فقال ابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن المسيب : إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر . وقال علي ابن الحسين ، وعطاء ، ومجاهد ، وحماد ، والحكم : هو حق في المال سوى الزكاة ، أمر بإتيانه ، لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة . قال إبراهيم : هو الضغث ، وقال الربيع : لقاط السنبل . وقال مجاهد : كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مر . وقال يزيد بن الأصم : كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد ، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه . وقال سعيد بن جبير : كان هذا حقاً يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام ، فصار منسوخاً بإيجاب العشر . قال مقسم عن ابن عباس : نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن .

قوله تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } ، قيل : أراد بالإسراف إعطاء الكل . قال ابن عباس في رواية الكلبي :عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيء ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . قال السدي : { لا تسرفوا } أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . قال الزجاج : على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف ، لأنه قد جاء في الخبر ( أبدأ بمن تعول ) . وقال سعيد بن المسيب : معناه لا تمنعوا الصدقة . فتأويل هذه الآية على هذا لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة . وقال مقاتل :لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام . وقال الزهري : لا تنفقوا في المعصية . وقال مجاهد : الإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل ، وقال : لو كان أبو قيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ، ولو أنفق درهماً أو مداً في معصية الله كان مسرفاً ، وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف . وروى ابن وهب عن أبي زيد قال : الخطاب للسلاطين ، يقول : لا تأخذوا فوق حقكم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

{ 141 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم من الحروث والأنعام ، ذكر تبارك وتعالى نعمته عليهم بذلك ، ووظيفتهم اللازمة عليهم في الحروث والأنعام فقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ } أي : بساتين ، فيها أنواع الأشجار المتنوعة ، والنباتات المختلفة .

{ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } أي : بعض تلك الجنات ، مجعول لها عرش ، تنتشر عليه الأشجار ، ويعاونها في النهوض عن الأرض . وبعضها خال من العروش ، تنبت على ساق ، أو تنفرش في الأرض ، وفي هذا تنبيه على كثرة منافعها ، وخيراتها ، وأنه تعالى ، علم العباد كيف يعرشونها ، وينمونها .

{ وَ } أنشأ تعالى { النخل وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } أي : كله في محل واحد ، ويشرب من ماء واحد ، ويفضل الله بعضه على بعض في الأكل .

وخص تعالى النخل والزرع على اختلاف أنواعه لكثرة منافعها ، ولكونها هي القوت لأكثر الخلق . { وَ } أنشأ تعالى { الزيتون وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا } في شجره { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } في ثمره وطعمه . كأنه قيل : لأي شيء أنشأ الله هذه الجنات ، وما عطف عليها ؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد فقال : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } أي : النخل والزرع { إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أي : أعطوا حق الزرع ، وهو الزكاة ذات الأنصباء المقدرة في الشرع ، أمرهم أن يعطوها يوم حصادها ، وذلك لأن حصاد الزرع بمنزلة حولان الحول ، لأنه الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء ، ويسهل حينئذ إخراجه على أهل الزرع ، ويكون الأمر فيها ظاهرا لمن أخرجها ، حتى يتميز المخرج ممن لا يخرج .

وقوله : { وَلَا تُسْرِفُوا } يعم النهي عن الإسراف في الأكل ، وهو مجاوزة الحد والعادة ، وأن يأكل صاحب الزرع أكلا يضر بالزكاة ، والإسراف في إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب عليه ، ويضر نفسه أو عائلته أو غرماءه ، فكل هذا من الإسراف الذي نهى الله عنه ، الذي لا يحبه الله بل يبغضه ويمقت عليه .

وفي هذه الآية دليل على وجوب الزكاة في الثمار ، وأنه لا حول لها ، بل حولها حصادها في الزروع ، وجذاذ النخيل ، وأنه لا تتكرر فها الزكاة ، لو مكثت عند العبد أحوالا كثيرة ، إذا كانت لغير التجارة ، لأن الله لم يأمر بالإخراج منه إلا وقت حصاده .

وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر ، أنه لا يضمنها ، وأنه يجوز الأكل من النخل والزرع قبل إخراج الزكاة منه ، وأنه لا يحسب ذلك من الزكاة ، بل يزكي المال الذي يبقى بعده .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يبعث خارصا ، يخرص للناس ثمارهم ، ويأمره أن يدع لأهلها الثلث ، أو الربع ، بحسب ما يعتريها من الأكل وغيره ، من أهلها ، وغيرهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

ثم بين - سبحانه - أنه هو الخالق لكل شىء من الزروع والثمار والأنعام التى تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة ، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت لهم فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَنشَأَ . . . . } .

قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } .

أنشأ : أى أوجد وخلق . والجنات : البساتين والكروم المتلفة الأشجار .

ومعروشات : أصل العرش فى اللغة شىء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش ، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً من بابى - ضرب ونصر - ، وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف . فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك . قال ابن عباس : المعروشات . ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك . وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر .

وقيل المعروشات وغي المعروشات كلاهما فى الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه مالا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا .

وقيل المعروشات ما غرسه الناس فى البساتين واهتمووا به فعرشوه من كرم أو غيره ، وغير المعروشات . هو ما أنبته الله فى البرارى والجبال من كرم وشجر .

أى : وهو - سبحانه - الذى أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التى منها المرفوعات عن الأرض ، ومنها غير المرفوعات عنها ، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع .

وقوله : { والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } عطف على جنات ، أى : أنشأ جنات ، وأنشأ النخل والزرع ، والمراد بالزرع جميع الحبوب التى يقتات بها .

وإنما أفردها مع أنهما داخلان فى الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت فى الجنات .

و { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أى ، ثمره وحبه فى اللون والطعم والحجم والرائحة .

والضمير فى أكله راجع إلى كل واحد منهما ، أى : النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى ، مختلف المأكول فى كل منهما فى الهيئة والطعم .

قال الجمل : وجملة . { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا ، فهو مثل قولهم : مررت برجل معه صقر صائداً له غدا " .

وقوله : { والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } أى : وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر وغير متشابه فى الطعم أو متشابها بعض أفرادها فى اللون أو الطعم أو الهيئة " وغير متشابه فى بعضها .

قال القرطبى : وفيه ألدة ثلاثة .

أحدها : ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير .

الثانى : على المنة منه - سبحانه - علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شىء .

الثالث : على القدرة فى أن يكون الماء الذى من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأي الفلاسفة وأسسها ، هل هى فى قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب .

كلا ، لا يتم ذلك فى العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له فى كل شىء آية ونهاية .

ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب . وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم " .

ثم ذكر - سب-انه - المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التى أنشأناها لكم ، شاكرين الله على ذلك . والأمر للإباحة . وفائدة التقييد بقوله { إِذَآ أَثْمَرَ } إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك .

وقيل فائدته : الترخيص للمالك فى الأكل من قبل أداء حق الله - تعالى - لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شىء منه لمكان شركة المساكين له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل .

ثم أمرهم - سبحانه - بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أى ، كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده .

ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير .

وأصحاب هذا الراى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة .

وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده .

ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية .

ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات ، وفى الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد ، مبالغة فى العزم على المبادرة إليه .

والمعنى : اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء .

وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله .

ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت ، { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } . أى لا تسرفوا فى أكلكم قبل الحصاد ولا فى صدقاتكم ولا فى أى شأن من شئونكم ، لأنه - سبحانه - لا يحب المسرفين .

وقال ابن جريج ، نزلت فى ثبات بن قيس ، قطع نخلا له فقال . لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فنزلت هذه الآية .

وقال عطاء ، نهوا عن السرف فى كل شىء .

وقال إياس بن معاوية ، ما جاوزت به أمر الله هو سرف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار و { أنشأ } معناه خلق واخترع «والجنة » مأخوذة من جن إذا ستر ، و { معروشات } قال ابن عباس : ذلك في ثمر العنب ، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات » ما عرش كهيئة الكرم ، وغيره : البساتين وقيل : المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل : المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق ، و { مختلفاً } : نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء{[5121]} ، و { متشابهاً } يريد في المنظر ، { وغير متشابه } في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله { كلوا من ثمره } نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك ، ويقرأ «من ثُمره » بضم الثاء وقد تقدم ، { وآتوا حقه يوم حصاده } فقالت طائفة من أهل العلم : هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه ، وقاله مالك بن أنس .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة ، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة ، ومعترض أيضاً بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه ، وقال ابن الحنفية أيضاً وعطاء ومجاهد وغيرهم من أهل العلم : بل قوله { وآتوا حقه } ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة ، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر ، فإذا صفى وكال أخرج من ذلك الزكاة ، وقال الربيع بن أنس : حقه :إباحة لقط السنبل ، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها .

وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن ، وقال السدي :الآية في هذه السورة مكية نسختها الزكاة ، فقال له سفيان عمن ؟ قال عن العلماء{[5122]} .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والنسخ غير مترتب في هذه الآية ، لأن هذه الآية وآية الزكاة{[5123]} لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض ، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي «حِصاده »{[5124]} وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حَصاده » بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر ، وقوله تعالى : { ولا تسرفوا } الآية ، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب ، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل ، وقاله ابن زيد ، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته{[5125]} .

وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة ، فنزلت هذه الآية ، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئاً عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية ، ومن قال إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية .


[5121]:- المعنى أن الله أنشأ الزرع والنخل مقدرا فيهما الاختلاف، وقد مثّل لهذا سيبويه بقوله: "مررت برجل معه صقر صائدا به غدا" على الحال، كما تقول: "لتدخلن الدار آكلين شاربين"، أي مقدرين ذلك. وقيل: [أُكُله] مرفوع بالابتداء و[مُختلفا] نعته، لكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب، كما تقول: "عندي طباخا غلام"، وكما قال الشاعر: الشر منتشر يلقاك عن عرض والصالحات عليها مغلقا باب وقيل: إن الله لما أنشأ الزرع والنخل كان مختلفا أكله، على معنى أنه لو كان له أكل لكان مختلفا أكله. قال الزجاج: هذه مسألة مشكلة من النحو – وقد جاء التعبير بقوله تعالى: {أُكُله} ولم يقل [أكلهما] باعتباره يعود على الزرع والنخل لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها} ولم يقل {إليهما} وقال الحوفي: "والهاء في [أكله] عائدة على ما تقدم من ذكر هذه الأشياء المنشئات"، وعلى هذا يكون الحال من جميع ما أنشأ لا من النخل والزرع فقط، وردّ عليه أبو حيان بقوله "لو كان كذلك لكان التركيب الصحيح (مختلفا أكلها)، وأجيب بأن ذلك على تقدير محذوف هو في الأصل مضاف، أي(ثمر جنات...) وروعي هذا المحذوف في هاء [أكله].
[5122]:- نقل القرطبي هذا الخبر بالنص التالي (وقال سفيان: سألت السدي عن هذه الآية فقال: نسخها العشر ونصف العشر، فقلت: عمّن؟ قال: عن العلماء)
[5123]:- هي قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} الآية (103) من سورة (التوبة)، وكذلك قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} الآية 0439 من سورة (البقرة).
[5124]:- أي بكسر الحاء بدليل قوله بعد القراءة الثانية: "بفتح الحاء" وهو هنا يقول: "وهما لغتان في المصدر". لكن ابن خالويه يقول في كتابه "الحجة في القراءات السبع": "بفتح الحاء وكسرها فرقا بين الاسم والمصدر على ما قدمنا القول فيه أو على أنهما لغتان" ومثل (حصاد) في ذلك: الصرام والصّرام والجذاذ والجِذاذ.
[5125]:- الإسراف في النفقة: التبذير، ويؤكد هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المعتدي في الصدقة كمانعها)، وقصة ثابت بن قيس التي ذكرت على أنها سبب نزول الآية تؤيد ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)