الآية 141 وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } ذكر هذا ، والله أعلم ، مقابل ما كان منهم من تحريم ما أحل الله لهم ، ورزقهم من الحرث والزرع والأنعام والانتفاع بها ، فقال : { أنشأ جنات } وبساتين ، من تأمل فيها ، وتفكر ، عرف أن منشئها مالك حكيم مدبر ؛ لأنه ينبتها . ويخرجها من الأرض ، في لحظة ما لو اجتمع الخلائق على تقديرها أن كيف خرج ؟ وكم خرج ؟ وأي قدر ثبت ؟ ما قدروا على ذلك كقوله تعالى : { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } [ الحجر : 19 ] . ويخرج من الورد والثمار على ميزان واحد ما لو جهدوا كل الجهد أن يعرفوا الفضل والتفاوت بين الأوراق والثمار ما قدروا ، وما وجدوا فيها تقاربا . ويخرج أيضا كل عام من الثمار والأوراق ما يشبه العام الأول .
فدل ذلك كله أن منشئها ومحدثها مالك حكيم ، وضع كل شيء موضعه ، وأن ما أنشأ أنشأ لحكمة وتدبير لم ينشئها عبثا ؛ فله الحكم والتدبير في الحل والحرمة والقسمة ، ليس لأحد دونه حكم ولا تدبير في التحريم والتحليل : هذا حلال ، وهذا حرام ، وهذا لهذا ، [ وهذا لهذا ]{[7818]} ؛ إنما ذلك إلى مالكها فخرج هذا ، والله أعلم ، يقابل ما كان منهم من قوله تعالى : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] [ وقوله تعالى ]{[7819]} : { وهذا لشركائنا } [ الأنعام : 136 ] وقوله تعالى { وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه } [ الأنعام : 138 ] وغير ذلك من الآيات التي كانت فيها ذكر حكمهم{[7820]} على الله وإشراك أنفسهم في حكمهم .
ثم اختلف في قوله : { معروشات } [ قيل : { معروشات } ]{[7821]} مبسوطات : ما تنبت منبسطا على وجه الأرض [ { وغير معروشات } ما يقوم بساقه ، لا ينبسط على الأرض ، وقيل : { معروشات } ما يتخذ له العريش من نحو العرجون والقرع وغيره ]{[7822]} [ وغير معروشات } ما لا تقع الحاجة إلى العريش من نحو النخيل والأشجار المثمرة ، وهما واحد ، وقيل : على القلب : { معروشات } ما تقوم بساقها { وغير معروشات } ما لا ساق له ، والله أعلم .
وتعريشه ما ذكر على إثره { والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه } منها ما يكون متشابها في اللون مختلفا في الأكل والطعم ، ومنها ما يكون مختلفا في اللون والمنظر متشابها في الطعم الأكل ليعلموا أن منشئها واحد وأنه حكيم ؛ أنشأها على حكمة ، وأنه مدبر ؛ أنشأها عن تدبير ؛ لم ينشئها عبثا .
ومن الناس من يقول : إن{[7823]} قوله تعالى { متشابها } في الذي ذكر ، وهو الرمان والزيتون ؛ لأن ورقهما متشابه ، والثمرة مختلفة ، ومنهم من يقول : [ التشابه ]{[7824]} فيهما وفي غيرهما ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر } ولا تحرموا ؛ خرج على مقابلة ما كان منهم من التحريم ؛ أي كلوا منها ، ولا تحرموا ليضيع ، ويفسد .
وقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } ذكر عز وجل الإيتاء مما يحصد /163-أ/ بعد ذكر النخيل والزرع والزيتون والرمان حبا وغير حب ، وما يقع في الكيل ، وما لا يقع مجملا عاما ، ولم يفصل بين قليله وكثيره ، فيه دلالة وجوب الصدقة والعشر في قليل ما تخرج الأرض وكثيره . وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } [ الآية : 267 ] .
وحديث معاذ [ ابن جبل ]{[7825]} رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في كل ما أخرجت الأرض العشر أو نصف العشر ) [ بنحوه السيوطي في الدر المنثور 3/367 ] وحديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[7826]} قال : ( في كل ما أخرجت الأرض قليله وكثيره العشر ) [ بنحوه البخاري 1483 ] وخبر معاذ [ بن جبل أنه ]{[7827]} قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن ، فأمرني أن آخذ من [ كل ]{[7828]} حالم دينارا أو عدله معافر ، وأمرني أن آخذ من كل أربعين [ بقرة ] مسنة ومنكل ثلاثين [ بقرة تبيعا حوليا ]{[7829]} ومن كل ما سقت السماء العشر . وما سقي بالدوالي{[7830]} نصف العشر ) [ أحمد 5/223 ] إلى هذا كله يذهب أبو حنيفة ، رحمه الله ، ويوجب الصدقة في قليل الخارج من الأرض وكثيره .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل الحق الذي ذكره الله في قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } قال قوم : هي صدقة سوى الزكاة ، واحتجوا بأن الآية مكية ، وأن الزكاة فرضت بالمدينة ، وهي منسوخة بآية الزكاة . وقال قوم : هي الزكاة فإن نسخ فإنما{[7831]} نسخ قدرها ، لم ينسخ الحق رأسا ؛ لأنهم كانوا يتصدقون بالأكل{[7832]} ، فما نسخ إنما نسخ بآية الزكاة قدرها .
ألا ترى أنه قال تعالى في آخره : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } ؟ والإسراف في اللغة هو المجاوزة عن الحد الذي حد له كقوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } [ الفرقان : 67 ] .
وقيل في قوله تعالى : { ولا تسرفوا } أي لا تمنعوا الأكل{[7833]} ، ولكن كلوا من بعضه ، وآتوا حقه من بعضه ، وقيل : الإسراف ههنا هو الشرك ، كأنه [ قال ]{[7834]} : لا تشركوا آلهتكم في ما رزقكم الله من الحرث والأنعام ، [ فتحرموا ، ولا تنتفعوا ]{[7835]} به .
والإسراف هو الذي لا ينتفع به أحد ، وما كانوا جعلوا لشركائهم لا ينتفعون به هم ، ولا انتفع به أحد ، يكون مقابل{[7836]} قوله تعالى : { هذه أنعام وحرث حجر } الآية [ الأنعام : 138 ] .
وأما أبو يوسف ومحمد ، رحمهما الله [ فإنهما ]{[7837]} يذهبان إلى ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [ أنه ]{[7838]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا صدقة في الزرع ولا في الكرم ولا في النخل إلا ما بلغ خمسة أوسق ، وذلك مئة فرق } [ البيهقي في الكبرى 4/ 128 ] .
وعن ابن عمر ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وما روي موسى بن طلحة [ عن أبيه ]{[7839]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس في الخضراوات صدقة ) [ الطبراني في الأوسط 5917 ] تؤخذ إلا في ما بلغ كذا ؛ وما{[7840]} عليه في نفسه صدقة يرديها هو .
ثم إن كان ذلك الحق الذي ذكر في الآية الزكاة فإن الآية تدل ، والله أعلم ، على أن زكاة الحب والثمار إنما تجب في ما [ يبس من الجنات ]{[7841]} المعروشات وغير المعروشات ، فدخل في ذلك ، والله أعلم ، العنب وغير العنب والثمار كلها [ وما ]{[7842]} قال تعالى : { والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه } فجميع ما تخرج الأرض من كل الأصناف التي سبق ذكرها .
وقال تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } فجعل الحق الواجب فيه يوم يحصد ، فيجوز أن يكون عفا عما قبل ذلك . فإن كان هذا هو التأويل ، فهو ، والله أعلم ، معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر } عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ما كان في ذلك فائدة ؛ لأن الثمرة تؤكل ، ولا تصلح لغير ذلك إلا للوجه الذي ذكرنا ؛ وهو أنهم كانوا يحرمون ، ولا ينتفعون بها ، فقال عز وجل { كلوا } وانتفعوا به ، ولا تضيعوه .
وإذا كان قوله تعالى : { كلوا من ثمره } عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ظهرت فائدة الكلام ، وهو على هذا التأويل ، والله أعلم ، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا خرصتم فخذوه ، ودعوا الثلث فالربع ) [ النسائي 5/42 ] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[7843]} قال : ( ليس في العرايا صدقة ) [ البيهقي في الكبرى 4/ 125 ] وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يبعث أبا خيثمة خارصا للنخل ، ويقول له : إذا وجدت أهل بيت في حائطهم فلا تخرص بقدر ما يأكلون . وعن مكحول [ أنه ]{[7844]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خففوا على الناس في الخرص فإن من المال العرية والوصية ) [ بنحوه البخاري 2188 و 2193 و 2380 ] .
فدلت هذه الأحاديث على أنه لا صدقة في ما يؤكل من الثمر رطبا ، إذا لم يكن في ما يأكلون إسراف ، وقدر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الثلث أو الربع . وذلك ، والله أعلم ، يشبه ما دلت عليه الآية على تأويل من جعل الحق زكاة ؛ لأن الله تعالى قال : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } فاحتمل أن يكون أيضا معنى ذلك ولا تسرفوا في الأكل ، فيجحف ذلك بأهل الصدقة ، ويحتمل أن يكون ذلك نهيا عن الإسراف في جميع الأشياء على ما ذكرنا من قبل .
وإذا صح أن لا صدقة في ما يؤكل من الرطب والعنب والثمار بهذه الأخبار ، وأن الصدقة إنما تجب في ما يلحقه الحصاد يابسا ، يمكن ادخاره ، فالواجب ألا يكون في شيء من الخضر التي{[7845]} تؤكل رطبة صدقة ، وألا تكون الصدقة واجبة إلا في ما يبس منها ، ويمكن أن يدخر . فأما البقول والرطاب والبطيخ والقثاء والتفاح وأشباهها فلا صدقة فيها . هذا كله يدل لأبي يوسف ومحمد ، رحمهما الله ، إلا أنا لا نعلم مخالفا في أن ما يباع من الرطب صدقة ، وإن كان يؤكل بهيئته{[7846]} ، فهذا يفسد ما احتججنا{[7847]} به لأبي يوسف ومحمد ، رحمهما الله ، ومن وافقهما . وتأويل ما روي أن لا صدقة في الخضروات ، وليس في أقل من خمسة أوسق صدقة تؤخذ ، وما{[7848]} عليه في نفسه يوديها{[7849]} ، والله أعلم .
وجائز أن يكون قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } على أولئك خاصة في ذلك الوقت ، أو يقول : { وآتوا حقه } ولا تصرفوا إلى الأصنام التي تصرفون إليها ، والله أعلم .