اعلم أنه -تعالى- لما جعل مدار هذا الكتاب الشَّريف على تقرير التَّوْحيد والنبوة والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر ، وإنه تبارك وتعالى- بالغ في تَقْرِير هذه الأصُول ، ثم شرح أحْوَال السُّعداء والأشْقِياء وانْتَقَل إلى تهْجِين طَريِقَة منْكِري البَعْث ، ونبه على ضَعْف عُقُولِهِم ، وتَنْفِير النَّاسِ عن الالْتِفَات إلى قولهم والاعْتِزَاء بشُبُهاتهم ، عاد بعدها إلى المقصُود الأصْلي ، وهو إقامة الدَّلائِل على تَقْرير التًّوحيد ، فقال -تعالى- : { وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ } وهذا الدَّليل قد سبق في هذه السُّورة ، وهو قوله - تعالى- : { وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 99 ] فالآية المتقدمة ذكر فيها خَمْسة أنواع : وهي الزَّرع ، والنخل ، وجنَّات من أعْناب ، والزيتون والرُّمَان ، وذكر في هذه الآية الكريمة [ هذه الخمسة وقال : ] " مشتبهاً وغَيْر مُتَشَابِه " وهنا " مَتَشابِهاً وغير مُتَشَابه " وذكر في الآية المتقدمة : " انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَر وينعهِ " وذكر في هذه الآية : " كُلُوا مِنْ ثَمَره إذا أثْمر وآتوا حقَّهُ يوم حَصَادِهِ " فأذن في الانتفاع بها ، وأمر بِصَرف جُزْء مِنْها إلى الفُقَراء ، فالذي حَصَل به الامْتِيَاز بين الآيتين : أن هُنَاك أمر بالاسْتِدْلال بها على الصَّانع الحكيم وههنا أذن في الانْتِفَاع بها ، وذلك تَنْبِيهٌ على أن الأمْرَ بالاسْتِدْلال بها على الصَّانِع الحَكيم مقدَّم على الإذن في الانتفاع ، لأن الاستدلال على الصَّانِع يَحْصُل به سعادة أبدية ، والانتفاع يحصل به سعادة جُسْمانِيَّة سريعة الانْقضَاء والأول أولى بالتَّقْديم .
وقال القرطبي{[15361]} : ووجه اتِّصَال هذا بما قَبْلَه : أن الكُفَّار لما افْتَروا على الله الكذب ، وأشْركُوا معه وحَلَّلُوا أو حَرَّمُوا ، دَلَّهم على وحْدانِيَّته بأنه خَالِق الأشْيَاءِ ، وأنه جَعَل هذه الأشْيَاء أرْزَاقاً لهُمْ .
قوله : " أنْشَأ جَنَّاتٍ " أي : خَلَقها ، يقال : نشأ الشَّيْء يَنْشَأ ونَشْأه ونَشَاءَةً ، إذا ظهر وارتفع ، والله يُنْشِئُه إنْشَاءً ، أي : يُظْهرُه ويرفعه .
وقوله : " مَعْرُوشَاتٍ " يقال : عَرَشْت الكَرَم أعْرِشُه عَرْشاً وعَرَّشْهُ تَعْريشاً إذا عطفت العيدان الَّتِي تُشَال عليها قُضْباَن الكَرْم ، والواحِدُ عَرْشٌ ، والجمع عُرُوشٌ ، ويُقَال : عَرِيش وجمعه عُرُش ، واعْتَرش العِنَبُ العَرِيش اعْتِرَاشاً ، وفيه أقوال :
أحدها : قال الضَّحَّاك : إن المَعْرُوشاتِ وغَيْر المَعْرُوشَاتِ كلاهما الكَرْم{[15362]} ؛ فإن بَعْضَ الأعناب يُعَرَّش وبَعْضُها لا يُعَرَّش ، بل يَبْقَى على وجْهِ الأرْضِ مُنْبَسِطاً .
وثانيها : المَعْرُوشات : العِنَب الَّتِي يجعل لها عُرُوش ، وغير المعروشات : كُلُّ ما يَنْبُت منَبِسطاً على وَجْه الأرض ؛ مثل القَرْع والبطِّيخ{[15363]} .
وثالها : قال ابن عبَّاس- رضي الله عنهما- : " المَعْرُوشات : ما يُحْتَاجُ أن يتَّخذ له عَرِيشٌ يحمل عَلَيْه ؛ مث الكَرْم والبطِّيخ والقَرْع وغيرها ، وغير المَعْرُوش : هو القَائِم على سَاقِهِ كالنَّخْلِ والزَّرْع{[15364]} .
ورابعها : المَعْرُوشات : ما يَحْصُل في البَسَاتين والعمرانات مما يغرسه النَّاسِ ، وغير المعروشات : مما أنْبَتَهُ اللَّه-تبارك وتعالى- وجني في البَرَارِي والجِبَال .
والزَّرغ والنَّخْل ؛ فسر ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- الزَّرْع هَهُنا : لجميع الحُبُوب التي تقْتَات{[15365]} ، أي : وأنْشَأ الزَّرْع ، وأفْرِدا بالذِّكر وهما دَاخِلان في النِّبات ؛ لما فيهما من الفَضِيلَة على ما تقدَّم بيانه في البقرة عند قوله - تعالى- : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ } [ البقرة : 98 ] .
قوله - تعالى- : { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } : مَنْصُوب على الحَالِ وفيها قولان :
أحدهما : أنها حَالٌ مُقَدَّرة ؛ أن النَّخْل والزرع وَقْت خروجهما لا أكْلَ فِيهمَا ؛ حتى يقال فيه : مُتَّفِقٌ أو مُخْتَلِف ؛ فهو كقوله -تبارك وتعالى- : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ، وكقولهم : " مَرَرْت برجُلٍ معه صَقْرٌ صَائِداً به غداً " أي : مُقَدِّراً الاصطِيَاد به .
والثاني : أنها حَالٌ مُقَارِنَة ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : وثمر النَّخْل وحَبُّ الزَّرع ، و " أكُلُه " مَرْفُوعٌ ب " مُخْتَلِفاً " [ لأنه اسْم فاعل ، وشروط الإعْمَال مَوْجُودة ، والأكُل : الشَّيْء المَأكُول ، وقد تقدَّم أنه يُقْرأ بضمّ الكافِ وسُكُونها ، ومضى تحقيقُه في البقرة : [ 265 ] ، والضَّمِير في " أكُله " الظاهر أنَّه يَعُودُ على الزَّرْعِ فقط :
إمَّا لأنَّه حذف حالاً من النَّخْلِ ؛ لدلالة هذه عَلَيْه ، تقديره : والنَّخْل مُخْتَلِفاً أكُلُه ، والزَّرْع مُخْتَلِفاً ]{[15366]} أكله .
وإمَّا لأن الزَّرع هو الظَّاهِر فيه الاخْتِلافُ بالنِّسْبَة إلى المأكُول مِنْه ؛ كالقَمْح والشَّعِير والفول والحِمص والعَدس وغير ذلك .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[15367]} : والضَّمِير للنَّخْل والزَّرع داخل في حُكْمِهِ ، لكونه مَعْطُوفاً عليه .
وقال أبو حيّان{[15368]} : وليس بِجيِّد ؛ لأن العَطْف بالواوِ ، ولا يَجُوز إفْرَاد ضَمير المتَعَاطِفين .
وقال الحُوفِيُّ : " والهاءُ في " أكُلُه " عائدة على ذِكْر ما تقدَّم من هذه الاشْيَاء المُنْشَات " وعلى هذا الذي ذكرَهُ الحوفي : لا تخْتَصُّ الحَالُ بالنخل والزَّرْعِ ، بل يكُون لِمَا تقدَّم جَمِيعه .
قال أبو حيَّان{[15369]} : " ولو كَانَ كما زَعَم ، لكان التَّرْكيب : " أكُلُهَا " إلا إنْ أُخِذ ذَلِك على حَذْفِ مُضَافِ ، أي : ثَمَرَ جَنَّات ، وروعي هذا المَحْذُوف فقيل : " أكُلُه " بالإفْرَاد على مُرَعَاته ، فيكون ذلِك كَقَوْله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ } [ النور : 40 ] أي : أو كَذَا ظُلُمات ، ولذلك أعَادَ الضمير في يَغْشَاهُ عليه " .
قال شهابُ الدِّين{[15370]} : فَيَبْقَى التَّقْدِير : مُخْتَلِفاً أكُل ثمر الجنَّاتِ وما بعدها ، [ وهذا ] يلْزَمُ منه إضَافَة الشَّيءِ إلى نَفْسِه ؛ لأن الأكل كما تقدَّم غير مرَّة أنه الثَّمَر المأكُول .
قال الزمخشري{[15371]} في الأكُل : " وهُوَ ثمره الذي يُؤكَل " .
وقال ابن الأنْبَاريِّ : إن " مُخْتَلِفاً " نصبٌ على القَطْع ، فكأنه قال : " والنَّخْل والزَّرْع المختلفُ أكُلُها " وهذا راي الكُوفيِّين ، وقد تقدم إيضاحُه غير مرَّةٍ .
وقوله : { والزيتون والرّمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَت أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وقد تقدَّم إيضاحه [ الأنعام : 99 ] .
قال القرطبيّ{[15372]} : " والزَّيْتُون والرُّمَّان " عَطفٌ عليه ، " مُتَشَابهاً وغير مُتَشَابِه " نصب على الحالِ ، وفي هذه أدلَّة ثلاثة :
أحدهما : ما تقدَّم من إقَامَة الدّلِيل على أنَّ المتغيّرات لا بُدَّ لها من مُغَيِّر .
الثاني : أن الدَّلالة على المِنَّة منه -سبحانه وتعالى- علينا ، فلو شَاءَ إذ خَلَقَنَا ألاَّ يَخْلُق لنا غِذَاءً ، وإذا خَلَقَهُ ألاّ يَكُون جميلَ المَنْظَر طيِّب الطَّعْم ، وإذا خلقَهُ كذلك ألاَّ يكون سَهْل الجَنْي ، فلم يَكُن عليه أن يَفْعَل ذلك ابتداء ؛ لأنه لا يَجِب عليه شَيْء .
الثالث : الدَّلالة على القُدْرَة في أن يكُون الماءُ الذي مِنْ شَأنه الرسوب ، يصعد بقُدْرَةِ علاَّم الغُيُوب من أسَافِل الشَّجَرة إلى أعاليها ، حتى إذا انْتَهَى إلى آخِرِها ، نشأ فيها أوْرَاق لَيْست من جِنْسِها ، وثمر خَارجٌ من الجِرمْ الوَافِر ، واللَّوْن الزَّاهِر ، والجَنَى الجَديد ، والطَّعم اللذيد ؛ فأين الطِّبَاع وأجْنَاسُها ؟ وأين الفلاسفة أنَاسُها ؟ هل في قُدْرة الطَّبيعة أن تُتقِن هذا الإتْقَان ، أو تُرَتِّب هذا التَّرْتِيب العجيب ؟ كلاَّ لم يَتِمَّ ذلك في العُقُول إلاَّ بتَدبير عالمٍ قديرٍ مريدٍ ، فسبحان من لَهُ في كل شيء آية ونهايةَ !
فصل في المقصود من خَلْق المنافع
لما ذكر كيْفِيَّة خلقِهِ لهذه الأشْيَاءِ ، ذكرما هُو المَقْصُود الأصْلِيُّ من خلقها ، وهو انْتِفَاع المكَلَّفين ؛ فقال : " كلُوا من ثَمِرِهِِ إذَا أثْمر " واخْتَلَفُوا ما الفائدة منه ؟
قال بَعْضهُم : فائدته الإبَاحَة .
وقال آخَرُون : المَقْصُود منه إبَاحَة الأكل قبل إخْرَاج الحقِّ ؛ لأنه تعالى- لمَّا أوجَبَ الحقِّ فيه ، كان يجُوزُ أن يَحْرُم على المَالِكِ تَنَاوله لِمُشَاركة المساكين ، بل هذا هو الظَّاهر ، فأباح هذا الأكْل وأخرج وُجُوب الحقِّ فيه من أنْ يكون مَانِعاً من هذا التَّصَرُّف{[15373]} .
وقال بعضهم{[15374]} : بل أبَاحَ -تعالى- ذلك ليُبَيِّن أنَّ المقْصِد بِخَلْق هذه النًّعَم الأكْل ، وأما تَقْديم ذكر الأكْل على التصدُّق ؛ لأن رِعَاية النَّفْسِ متقدِّمة على الغَيْر ؛ قال : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } [ القصص : 77 ] .
تمسَّك بَعْضُهم{[15375]} بقوله : " كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أثْمَر " بأن الأصْل في المَنَافِع : الإباحة ؛ لأن قوله -تعالى- : " كُلُوا " خطاب عَامٌّ يتناول الكُلّ ، فصار كقوله : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض } [ البقرة : 29 ] ويكن التمَسُّك به على أنَّ الأصْل : عدم وُجوب الصّدَقة ؛ لأن من ادَّعى إيجابَهُ ، كان هو المُحْتَاج إلى الدَّلِيل ، فيُتَمسَّك به في أنَّ المَجْنُون إذا أفَاق في أثْنَاء الشَّهْر ، لا يَلْزَمُه قَضَاء ما قَضَى ، وفي أنَّ الشَّارع في صوم النَّفْل يجبُ عليه الإتمام .
قال القُرْطُبيُّ{[15376]} : قوله -تعالى- { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر } هذان بناءان جاءا بصيغة أفعل . أحدهما : للإباحة ؛ كقوله : { فانتشروا فِي الأرض } [ الجمعة : 10 ] . والثاني : للوجوب ، وليس يَمْتَنِع في الشَّريعة اقتران الإبَاحَة والواجب وبدأ بذكر نِعْمَة الأكْل قبل الأمر بإيتاء الحق ؛ ليبيِّن أن الابتداء بالنِّعْمَة كان من فَضْلِه قبل التكليف .
وقال ابن الخَطِيب{[15377]} : وعلى أنَّ صِيغَة الأمْر ترد لِغَيْر الوُجُوب والنّدْب ، وعند هذا ، قال بَعْضُهم : الأصْل في الاستِعْمَال : الحَقِيقَة ؛ فوجَبَ جعل هذه الصِّيغَة مفيدةً لرفع الحَرَج ؛ فلهذا قالوا : الأمْر يقتضي الإبَاحَة إلا أن نَقُول : يُعْلَم بالضَّرُورة من لُغَة العَرَب ، أن هذه الصِّيغَة تُفِيد تَرْجِيح جَانِب الفِعْل ، فحملُهَا على الإبَاحة لا يُصَار إليه إلاَّ بِدَليلٍ منفصل .
قوله : " وآتوا حقه يوم حصاده " قرأ أبو عمر{[15378]} وابن عامر وعاصم بِفَتْح الحاء : " حَصاده " والباقون بكسرها ، وهما لُغَتَان في المَصْدَر ؛ كقولهم ؛ جَداد وجِدَاد ، وقَطَاف وقِطَاف ، وحَرَان وحَرَان والصِّرَام والصَّرَام .
قال سيبويه{[15379]} : جاءوا بالمَصْدَر حين أرَادُوا انْتِهاء الزَّمَان على مثال : " فِعَال " وربما قَالُوا فيه : " فَعَال " يعني : أنَّ هذا مَصْدر خَاصٌّ دالٌّ على مَعْنى زَائِد على مُطْلَق المَصْدَر ؛ فإن المَصْدَر الأصْلِيّ إنما هو الحَصْد ، فالحَصْد ليس فيه دلالة على انْتِهَاء زَمَان ولا عدمها ؛ بخلاف الحَصَاد والحِصَاد .
ونسب الفرَّاء الكَسْر لأهل الحِجَاز ، والفتح ل " تميم " و " نَجْد " ، واخْتَار أبو عُبَيْد الفَتْحَ ؛ قال : للفخامة ، وإن كان الأخرى " فَاشِيَةً غير مَدفُوعة " ، ومكي{[15380]} الكَسْر ؛ قال : " لأنَّه الأصْل ، وعليه أكثر الجماعة " .
وقوله : " يَوْم حصاده " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوب ب " آتُوا أي : أعْطُوا واجِبه يوم الحَصَادِ ، واستَشْكَل بعض النَّاسِ ذلك بأنَّ الإيتاء إنما يكون بعد التَّصْفِيَة ، فكيف يُوجِب الإيتَاء في يَوْم الحَصْد ؟
وأجِيبُ : بأنّ ثَمَّ مَحْذُوفاً ، والتّقْدير : إلى تَصْفِيتهِ ، قالوا : فيكون الحَصاد سَبباً للوُجُوب المُوسَّع ، التَّصْفِيَة سَبَبٌ للأدَاءِ ، وأحسن من هَذَا أن يَكُونَ المَعْنَى : واهتمّوا بإيتاءِ الواجِبَة فيه واقْصُدُوه في ذلك اليَوْم .
الثاني : أنه مَنْصُوب بلفظ " حَقَّهُ " على معنى : وأعطوا ما اسْتُحقَّ منه يوم حَصَادِه ، فيكون الاستِحْقَاق ثابتاً يوم الحَصَاد والأدَاء بعد التَّصْفِيَة ؛ ويؤيد ذلك تَقْدير المَحْذُوف عند بَعْضِهِم كما قَدَّمْتُه ، وقال في نَظِير هذه الآية : { انظروا إلى ثَمَرِهِ } [ بالأنعام : 99 ] ، وفي هذه : " كُلُوا " قيل : لأن الأولى سيقت للدَّلالة على كَمَال قُدْرَته ، وعلى إعادة الأجْسام من عجب الذنب ، فأمر بالنظر والتَّفَكُّر في البدَاية والنِّهاية ، وهذه سيقت في مَعْرِض كما الامْتِنَان فناسب الأمْر بالأكْلِ ، وتحصَّل من مجموع الآيتيْنِ : الانتِفَاعُ الأخْرَوِيّ والدُّنْيَوي ، وهذا هو السَّبَب لتقدُّم النَّظَر على الأمْر بالأكْل كما قدمنا .
فقال ابن عبَّاس في رِوَاية عَطَاء وطاوس والحَسَن وجابر بن زيد وسعيد بن المُسَيَّب : أنَّها الزَّكَاة المفروضَةُ من العُشْر فيما سقَتِ السَّمَاءُ ، ونصف العُشْر فيما سُقِي بالكُلْفة{[15381]} .
وقال علي بن الحُسَيْن وعطاء ومُجَاهد وحمَّاد والحكم هو حَقُّ في المال سوى الزَّكَاة أمر بإيتائه ، لأن الآية مَكيَّة وفرضت الزَّكاة بالمَدِينَة{[15382]} .
قال إبراهيم : هو الضِّغث{[15383]} وقال الرَّبيع : لقاط السُّنْبُل{[15384]} .
وقال مُجَاهد : كانوا يُعَلِّقُون العذق عند الحَرَم ، فيأكُلُ مِنْهُ كلُّ من مَرَّ{[15385]} .
وقال يزيد بن الأصَمّ : كان أهْل المَدِينَة إذا أحْرَموا يجيئون بالعذق فَيُعَلِّقونه في جانِب المَسْجِد ، فيجيء المسْكِينُ فيضْربه بعَصَاه فَيَسْقُط منه{[15386]} .
وقال سَعيد بن جُبَيْر : كان هذا حقاً يُؤمر بإيتَائِه في ابْتداء الإسْلام ، فصار مَنْسُوخاً بإيجاب العُشْر{[15387]} .
وقال مُقْسِم عن ابن عبَّاس : نسخت الزَّكَاةٌ كُلُّ نفقةٍ في القُرْآنِ{[15388]} .
والصَّحيح الأوَّل ؛ لأن قوله - تعالى- : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } إنما يَحْسُن ذكره إذا كان ذلك الحَقُّ مَعْلوماً قبل وُرودِ هذه الآية ؛ لئلا تَبْقَى هذه الآية مُجمَلة .
وقال - عليه السلام- : " لَيْسَ في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاة " فوجَبَ أن يكون المُراد بهذا الحقِّ حق الزَّكَاةِ .
قوله : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } بعد ذكر العِنَب والنَّخْل والزَّرْع والزَّيْتُون والرُّمَّان يدلُّ على وُجُوب الزَّكَاةِ في الثِّمار كما يقوله أبو حنيفة ، فإن لفظ الحَصَادِ قيل : هو مَخْصُوص بالزَّرْع .
فالجواب : لفظ الحَصْد في اللُّغَة عبارة عن القَطْع ، وذلك يتناول الكلَّ ، وأيضاً فالضَّمِير في قوله : " حَصَادِهِ " يجب عَوْده إلى أقْرب المذْكُورات وذلك هو الزَّيْتُون والرُّمَّان ، فوجَبَ أن يَعُود الضَّمِير .
قال أبو حنيفة : العُشْر واجِبٌ في القَلِيل والكَثِير لهذه الآية .
وقال الأكثرون : لا يِجِب إلاَّ إذا بلغ خَمْسَة أوْسُق ؛ لأن الحَدِيث عن الحقِّ الواجب هَهُنا ما هو{[15389]} .
قال القرطبي{[15390]} : وبهذه الآية استَدَلَّ من أوجب العُشْر في الخضْرَواتِ ؛ لقوله تعالى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } والمذكور قَبْله الزَّيْتُون والرُّمَّان ، والمذكور عَقِب الجملة ينْصَرِف إلى الإخِيرَة بلا خلافٍ قاله الكيا الطبري .
قوله : " ولا تُسْرِفُوا " قال أبو العبَّاس عن ابن الأعْرَابيِّ : السَّرَف تجاوز الحدَّ .
وقال غيره : سَرَف المال : ما ذهب منه من غَيْر مَنْفَعَةٍ{[15391]} .
قال القُرْطُبي{[15392]} : الإسْرَاف في اللُّغَة : الخطأ .
قال ابن عبَّاس " وحَقُّ اللَّه " في رواية الكلبي عنه ؛ أن ثابت بن قيس بن شماس جَذَذَ خمسمائة نَخْلَةٍ ، وقسَّمَها في يوم واحدٍ ولم يترك لأهْلِه شَيْئاً ؛ فأنزل اللَّه هذه الآية{[15393]} .
وقال السُّدِّيُّ : " لا تُسْرِفُوا ؛ أي : لا تعْطُوا أمْوَالُكم فتَقْعُدوا فُقَرَاء " {[15394]} .
قال الزَّجَّاج - رحمه الله - : " فعلى هذا إذن : إعْضَاء الإنْسَان كل مَالِهِ ، ولم يوصل إلى عياله شَيْئاً وقد أسْرَف ؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام- : " ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " .
وقال سيعد بن المسيَّب : مَعْنَاه : لا تَمْنَعُوا الصِّدقة{[15395]} فعلى الأوَّل معنى الإسْرَاف ؛ تجاوُز [ الحَدِّ في الإعْطَاء ، وعلى هذا الإسْرَاف : تجاوز ]{[15396]} " الحَدِّ في المَنْع .
قوال مُقَاتِل : لا تُسْرِفُوا : لا تُشْرِكُوا الأصْنَام في الحَرْث والأنْعام{[15397]} .
وقال الزُّهري : معناه : لا تُنْفِقُوا في مَعْصية اللَّه -تعالى- .
قال مُجَاهد{[15398]} : لو كان أبُو قُبَيْس ذَهَباً فأنفقه أحد في سَبيل اللَّه وطاعة اللَّه ، لم يكن مُسْرِفاً : لو أنْفق دِرْهَمان في مَعْصِيَة اللًّه ، كان مسرفاً ، وهذا المَعْنَى أراده الشَّاعِر بقوله : [ الوافر ]
ذَهَابُ المَالِ في جُهْدٍ وأجْرٍ *** ذَهَابٌ لا يُقَالُ لَهُ : ذَهَابُ
قيل لِحَاتِمٍ الطَائيِّ : لا خير في السَّرفِ ، فقال : لا سَرَف في الخَيْر{[15399]} .
ورَوَى ابن وهب عن ابن زيد قال : الخِطَاب إلى السَّلاطين ، يَقُول : لا تَأخُذُوا فوق حَقكم ، قال - عليه الصَّلاة والسلام- " المعتدي في الصّدَقَةِ كَمَانِعِهَا " {[15400]} .
وقال أبو عَبْد الرحمان بن زيد بن أسْلَم : الإسْرَاف ما لم يُقْدَر على رَدِّه إلى الصَّلاحِ{[15401]} .
وقال النَّصْر بن شميل{[15402]} : الإسْراف : التَّبْذِير والإفرَاط ، والسَّرَف : الغفلة والجَهَلة ، وقوله - عز وجل- : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأنعام : 141 ] المقصود منه الزَّجْر ؛ لأن كل مَنْ لا يُحِبُّه الله -تعالى- فهو من أهْل النَّار ؛ لقوله - تعالى- { قل فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } [ المائدة : 18 ] حين قالوا { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .