الأولى - قوله تعالى : " أنشأ " أي خلق . " جنات معروشات " أي بساتين ممسوكات{[6759]} مرفوعات . " وغير معروشات " غير مرفوعات . قال ابن عباس : " معروشات " ما انبسط على الأرض مما يفرش مثل الكروم والزروع والبطيخ . " وغير معروشات " ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار . وقيل : المعروشات ما ارتفعت أشجارها . وأصل التعريش الرفع . وعن ابن عباس أيضا : المعروشات ما أثبته ورفعه الناس . وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار . يدل عليه قراءة علي رضي الله عنه " مغروسات وغير مغروسات " بالغين المعجمة والسين المهملة .
الثانية - قوله تعالى : " والنخل والزرع " أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة ، على ما تقدم بيانه في " البقرة " عند قوله : " من كان عدوا{[6760]} لله وملائكته " [ البقرة : 98 ] الآية .
" مختلفا أكله " يعني طعمه منه الجيد والدون ، وسماه أكلا لأنه يؤكل . و " أكله " مرفوع بالابتداء . و " مختلفا " نعته ، ولكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب . كما تقول : عندي طباخا غلام . قال :
الشرُّ منتشرٌ يلقاك عن عُرُض *** والصالحات عليها مُغلقًا بابُ
وقيل : " مختلفا " نصب على الحال . قال أبو إسحاق الزجاج : وهذه مسألة مشكلة من النحو ؛ لأنه يقال : قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها ، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقول : " خالق كل شيء " [ الأنعام : 102 ] فاعلم أنه أنشأها مختلفا أكلها ؛ أي{[6761]} أنه أنشأها مقدرا فيه الاختلاف ، وقد بين هذا سيبويه بقوله : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، على الحال ، كما تقول : لتدخلن الدار آكلين شاربين ، أي مقدرين ذلك . جواب ثالث : أي لما أنشأه كان مختلفا أكله ، على معنى أنه لو كان له لكان مختلفا أكله . ولم يقل أكلهما ؛ لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما ، كقوله : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها{[6762]} " [ الجمعة : 11 ] أي إليهما . وقد تقدم هذا المعنى .
الثالثة - قوله تعالى : " والزيتون والرمان " عطف عليه " متشابها وغير متشابه " نصب على الحال ، وقد تقدم القول فيه . وفي هذه أدلة ثلاثة : أحدها ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بدلها من مغير . الثاني على المنة منه سبحانه علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ؛ لأنه لا يجب عليه شيء . الثالث على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها ، وأين الفلاسفة وأناسها ، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان ، أو ترتب هذا الترتيب العجيب ! كلا ! لا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد . فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية !ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم .
الرابعة - قوله تعالى : " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " فهذان بناءان جاءا بصيغة أفعل : أحدهما مباح كقول : " فانتشروا في الأرض{[6763]} " [ الجمعة : 10 ] والثاني واجب .
وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب ، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف .
الخامسة - قوله تعالى : " وآتوا حقه يوم حصاده " اختلف الناس في تفسير هذا الحق ، ما هو ؟ فقال أنس بن مالك وابن عباس وطاوس والحسن وابن زيد وابن الحنفية والضحاك وسعيد بن المسيب : هي الزكاة المفروضة ، العشر ونصف العشر . ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي . وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة . وقال علي بن الحسين وعطاء والحكم وحماد وسعيد بن جبير ومجاهد : هو حق في المال سوى{[6764]} الزكاة ، أمر الله به ندبا . وروي عن ابن عمر ومحمد بن الحنفية أيضا ، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ ، وإذا درسته ودسته{[6765]} وذريته فاطرح لهم منه ، وإذا عرفت{[6766]} كيله فأخرج منه زكاته . وقول ثالث هو منسوخ بالزكاة ؛ لأن هذه السورة مكية وآية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة : " خذ من أموالهم صدقة{[6767]} " [ التوبة : 103 ] ، " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة{[6768]} " [ البقرة : 43 ] . روي عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن وعطية العوفي والنخعي وسعيد بن جبير . وقال سفيان : سألت السدي عن هذه الآية فقال . نسخها العشر ونصف العشر . فقلت عمن ؟ فقال عن العلماء .
السادسة - وقد تعلق أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم ما في قوله عليه السلام : ( فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح{[6769]} أو دالية نصف العشر " في إيجاب الزكاة في كل ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره . وقال أبو يوسف عنه : إلا الحطب والحشيش والقضب والتين والسعف{[6770]} وقصب الذريرة{[6771]} وقصب السكر . وأباه الجمهور ، معولين على أن المقصود من الحديث بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر . قال أبو عمر : لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب{[6772]} . وقالت طائفة : لا زكاة في غيرها . روي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي . وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك يحيى بن آدم ، وإليه ذهب أبو عبيد . وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مذهب أبي موسى ، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبيه . وقال مالك وأصحابه : الزكاة واجبة في كل مقتات مدخر ، وبه قال الشافعي . وقال الشافعي : إنما تجب الزكاة فيما ييبس يدخر في كل مقتات مأكولا . ولا شيء في الزيتون لأنه إدام . وقال أبو ثور مثله . وقال أحمد أقوالا أظهرها أن الزكاة إنما تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان يوسق ، فأوجبها في اللوز لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود . واحتج بقوله عليه السلام : ( ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة ) قال : فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الوسق ، وبين المقدار الذي يجب إخراج الحق منه . وذهب النخعي إلى أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجته الأرض ، حتى في عشر دساتج{[6773]} من بقل دستجة بقل . وقد اختلف عنه في ذلك ، وهو قول عمر بن عبدالعزيز فإنه كتب أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر . ذكره عبدالرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل ، قال : كتب عمر{[6774]} . . . ؛ فذكره . وهو قول حماد بن أبي سليمان وتلميذه أبي حنيفة . وإلى هذا مال ابن العربي في أحكامه فقال : وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق ، وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه . وقال في كتاب ( القبس بما عليه الإمام مالك بن أنس ) فقال : قال الله تعالى : " والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه " [ الأنعام : 141 ] . واختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنته أو بعضه ، وقد بينا ذلك ، في ( الأحكام ) لبابه ، أن الزكاة إنما تتعلق بالمقتات كما بينا دون الخضراوات ، وقد كان بالطائف الرمان والفرسك{[6775]} والأترج فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ذكره ولا أحد من خلفائه .
قلت : هذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة ، وأن الخضراوات ليس فيها شيء . وأما الآية فقد اختلف فيها ، هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب . ولا قاطع يبين أحد محاملها{[6776]} ، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه : أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد استقرار الأحكام في المدينة ، أفيجوز أن يتوهم متوهم أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ولا في خلافة أبي بكر ، حتى عمل بذلك الكوفيون ؟ . إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا وقال به !
قلت : ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته{[6777]} " [ المائدة : 67 ] أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه أو ببيانه ؟ حاشاه عن ذلك وقال تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي{[6778]} " [ المائدة : 3 ] ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا . وقال جابر بن عبدالله فيما رواه الدارقطني : إن المقاثئ{[6779]} كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء . وقال الزهري والحسن : تزكى أثمان الخضر إذا بيعت{[6780]} وبلغ الثمن مائتي درهم ، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه . ولا حجة في قولهما لما ذكرنا . وقد روى الترمذي عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال : ( ليس فيها شيء ) . وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبدالله بن جحش وأبي موسى وعائشة . ذكر أحاديثهم الدار قطني رحمه الله . قال الترمذي : ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء . واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة ) . قال أبو عمر : وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا ، وإنما هو من قول إبراهيم .
قلت : وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها فلم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية ، وعموم قوله عليه السلام : ( فيما سقت السماء العشر ) ما ذكرنا . وقال أبو يوسف ومحمد : ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية ، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة . وكان محمد يعتبر في العصفر والكتان البزر ، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العصفر والكتان تبعا للبزر ، وأخذ منه العشر أو نصف العشر . وأما القطن فليس فيه{[6781]} عنده دون خمسة أحمال شيء ، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي . والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منها شيء . فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة ، عشرا أو نصف العشر . وقال أبو يوسف : وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر ، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج ، فيه ما في الزعفران . وأوجب عبدالملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول . وهذا خلاف ما عليه مالك وأصحابه ، لا زكاة عندهم لا في اللوز ولا في الجوز ولا في الجلوز{[6782]} وما كان مثلها ، وإن كان ذلك يدخر . كما أنه لا زكاة عندهم في الإجاص{[6783]} ولا في التفاح ولا في الكمثرى ، ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يدخر . واختلفوا في التين ، والأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التين . إلا عبدالملك بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك ، قياسا على التمر والزبيب . وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم البغداديين المالكيين ، إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه . قال مالك في الموطأ : السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي سمعته من أهل العلم ، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة : الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك . وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه . قال أبو عمر : فأدخل التين في هذا الباب ، وأظنه ( والله أعلم ) لم يعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات ، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب ؛ لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان . وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه ، ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم . والتين مكيل يراعى فيه الخمسة الأوسق وما كان مثلها وزنا ، ويحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما . وقال الشافعي : لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما وكانا قوتا بالحجاز يدخر . قال : وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما ؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا فيما علمت ، وإنما كانا فاكهة . ولا زكاة في الزيتون ، لقوله تعالى : " والزيتون والرمان " [ الأنعام : 141 ] . فقرنه مع الرمان ، ولا زكاة فيه . وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه . وللشافعي قول بزكاة الزيتون قاله بالعراق ، والأول{[6784]} قاله بمصر ؛ فاضطرب قول الشافعي في الزيتون ، ولم يختلف فيه قول مالك . فدل على أن الآية محكمة عندهما غير منسوخة . واتفقا{[6785]} جميعا على أن لا زكاة في الرمان ، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه . قال أبو عمر : فإن كان الرمان خرج باتفاق فقد بان بذلك المراد بأن الآية ليست على عمومها ، وكان الضمير عائدا على بعض المذكور دون بعض . والله أعلم .
قلت : بهذا استدل من أوجب العشر في الخضراوات فإنه تعالى قال : " وآتوا حقه يوم حصاده " والمذكور قبله الزيتون والرمان ، والمذكور عقيب جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف . قاله الكيا الطبري . وروي عن ابن عباس أنه قال : ما لقحت رمانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة . وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : إذا أكلتم الرمانة فكلوها بشحمها فإنه دباغ المعدة . وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابن عباس قال : لا تكسروا الرمانة من رأسها فإن فيها دودة يعتري منها الجذام . وسيأتي منافع زيت الزيتون في سورة " المؤمنون{[6786]} " إن شاء الله تعالى . وممن قال بوجوب زكاة الزيتون الزهري والأوزاعي والليث والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور . قال الزهري والأوزاعي والليث : يخرص{[6787]} زيتونا ويؤخذ زيتا صافيا . وقال مالك : لا يخرص ، ولكن يؤخذ العشر بعد أن يعصر ويبلغ كيله خمسة أوسق . وقال أبو حنيفة والثوري : يؤخذ من حبه .
السابعة - قوله تعالى : " يوم حصاده " قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم " حصاده " بفتح الحاء ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان مشهورتان ، ومثله الصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال :الأول : أنه وقت الجذاذ . قاله محمد بن مسلمة ؛ لقوله تعالى : " يوم حصاده " . الثاني : يوم الطيب ؛ لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما ، فإذا طاب وحان{[6788]} الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به ، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة ، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب . الثالث : أنه يكون بعد تمام الخرص ؛ لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها . أصله مجيء الساعي في الغنم . وبه قال المغيرة . والصحيح الأول لنص التنزيل . والمشهور من المذهب الثاني ، وبه قال الشافعي . وفائدة الخلاف إذا مات بعد الطيب زكيت على ملكه ، أو قبل الخرص على ورثته . وقال محمد بن مسلمة : إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار ، ولو قدم رجل زكاته بعد الخرص وقبل الجذاذ لم يجزه ؛ لأنه أخرجها قبل وجوبها . وقد اختلف العلماء في القول بالخرص وهي :
الثامنة - فكرهه الثوري ولم يجزه بحال ، وقال : الخرص غير مستعمل . قال : وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق . وروى الشيباني عن الشعبي أنه قال : الخرص اليوم بدعة . والجمهور على خلاف هذا ، ثم اختلفوا فالمعظم على جوازه في النخل والعنب ؛ لحديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا . رواه أبو داود . وقال داود بن علي : الخرص للزكاة جائز في النخل ، وغير جائز في العنب ، ودفع حديث عتاب بن أسيد لأنه منقطع ولا يتصل من طريق صحيح ، قاله أبو محمد عبدالحق .
التاسعة - وصفة الخرص أن يقدر ما على نخله رطبا ويقدر ما ينقص لو يتمر{[6789]} ، ثم يعتد بما بقي بعد النقص ويضيف بعض ذلك إلى بعض حتى يكمل الحائط{[6790]} ، وكذلك في العنب في كل دالية{[6791]} .
العاشرة - ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم . فإذا كان في التمر زيادة على ما خرص لم يلزم رب الحائط الإخراج عنه ، لأنه حكم قد نفذ . قاله عبدالوهاب . وكذلك إذا نقصى لم تنقص الزكاة . قال الحسن : كان المسلمون يخرص عليهم ثم يؤخذ منهم على ذلك الخرص .
الحادية عشر - فإن استكثر رب الحائط الخرص خيره الخارص في أن يعطيه ما خرص وأخذ خرصه . ذكره عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج عن أبي{[6792]} الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول : خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق ، وزعم أن اليهود لما خيرهم أخذوا التمر وأعطوه عشرين ألف وسق . قال ابن جريج فقلت لعطاء : فحق على الخارص إذا استكثر سيد المال الخرص أن يخيره كما خير ابن رواحة اليهود ؟ قال : أي لعمري ! وأي سنة خير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثانية عشرة - ولا يكون الخرص إلا بعد الطيب ؛ لحديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ابن رواحة إلى اليهود فيخرص عليهم النخل حين تطيب أول التمرة قبل أن يؤكل منها ، ثم يخير يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه . وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق . أخرجه الدار قطني من حديث ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة . قال : ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة ، وأرسله مالك ومعمر وعقيل عن الزهري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالثة عشر - فإذا خرص الخارص فحكمه أن يسقط من خرصه مقدارا ما ؛ لما رواه أبو داود والترمذي والبستي{[6793]} في صحيحه عن سهل بن أبي حثمة أن النبي كان يقول : ( إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع ) . لفظ الترمذي . قال أبو داود : الخارص يدع الثلث للخرفة : وكذا قال يحيى القطان . وقال أبو حاتم البستي : لهذا الخبر صفتان : أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر ، والثاني أن يترك ذلك من نفس التمر قبل أن يعشر ، إذا كان ذلك حائطا كبيرا يحتمله . الخرفة بضم الخاء : ما يخترف من النخل حين يدرك ثمره ، أي يجتنى . يقال : التمر خرفة الصائم . عن الجوهري والهروي . والمشهور من مذهب مالك أنه لا يترك الخارص شيئا في حين خرصه من تمر النخل والعنب إلا خرصه . وقد روى بعض المدنيين أنه يخفف في الخرص ويترك للعرايا{[6794]} والصلة ونحوها .
الرابعة عشرة - فإن لحقت الثمرة جائحة بعد الخرص وقبل الجذاذ سقطت الزكاة عنه بإجماع من أهل العلم ، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوسق فصاعدا .
الخامسة عشرة - ولا زكاة في أقل من خمسة أوسق ، كذا جاء مبينا عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو في الكتاب مجمل ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض{[6795]} " [ البقرة : 267 ] . وقال تعالى : " وآتوا حقه " . ثم وقع البيان بالعشر ونصف العشر . ثم لما كان المقدار الذي إذا بلغه المال أخذ منه الحق مجملا بينه أيضا فقال : ( ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة ) وهو ينفي الصدقة في الخضراوات ، إذ ليست مما يوسق ، فمن حصل له خمسة أوسق في نصيبه من تمر أو حب وجبت عليه الزكاة ، وكذلك من زبيب ، وهو المسمى بالنصاب عند العلماء . يقال : وسق ووسق ( بكسر الواو وفتحها ) وهو ستون صاعا ، والصاع أربعة أمداد ، والمد رطل وثلث بالبغدادي ومبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد ، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل{[6796]} .
السادسة عشرة - ومن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه الزكاة إجماعا{[6797]} ؛ لأنهما صنفان مختلفان . وكذلك أجمعوا على أنه لا يضاف التمر إلى البر ولا البر إلى الزبيب ، ولا الإبل إلى البقر ، ولا البقر إلى الغنم . ويضاف الضأن إلى المعز بإجماع . واختلفوا في ضم البر إلى الشعير والسلت ، وهي :
السابعة عشرة - فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصة فقط ؛ لأنها في معنى الصنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد ، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر ، والمعز والغنم . وقال الشافعي وغيره : لا يجمع بينها ؛ لأنها أصناف مختلفة ، وصفاتها متباينة ، وأسماؤها متغايرة ، وطعمها مختلف ، وذلك يوجب افتراقها . والله أعلم . قال مالك : والقطاني كلها صنف واحد ، يضم إلى بعض . وقال الشافعي : لا يضم حبة عرفت باسم منفرد دون صاحبتها ، وهي خلافها مباينه في الخلقة والطعم إلى غيرها . يضم كل صنف بعضه إلى بعض ، رديئه إلى جيده ، كالتمر وأنواعه ، والزبيب أسوده وأحمره ، والحنطة وأنواعها من السمراء وغيرها . وهو قول الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد وأبي ثور . وقال الليث : تضم الحبوب كلها : القطنية{[6798]} وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة . وكان أحمد بن حنبل يجبن عن ضم الذهب إلى الورق ، وضم الحبوب بعضها إلى بعض ، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعي .
الثامنة عشر - قال مالك : وما استهلكه منه ربه بعد بدو صلاحه أو بعدما أفرك حسب عليه ، وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه ، ومن الزيتون في التقاطه ، تحرى ذلك وحسب عليه . وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك ، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس . قال الليث في زكاة الحبوب : يبدأ بها قبل النفقة ، وما أكل من فريك هو وأهله فلا يحسب عليه ، بمنزلة الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يخرص عليهم . وقال الشافعي : يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا ، لا يخرصه عليهم . وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه . قال أبو عمر : احتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى : " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " . واستدلوا على أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية . واحتجوا بقوله عليه السلام : ( إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع ) . وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدرس لم يحسب منه شيء على صاحبه عند مالك وغيره .
التاسعة عشرة - وما بيع من الفول والحمص والجلبان أخضر ، تحرى مقدار ذلك يابسا وأخرجت زكاته حبا . وكذا ما بيع من الثمر أخضر اعتبر وتوخي وخرص يابسا وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيبا وتمرا . وقيل : يخرج من ثمنه .
الموفية عشرين - وأما ما لا يتتمر من ثمر النخل ولا يتزبب من العنب كعنب مصر وبلحها{[6799]} ، وكذلك زيتونها الذي لا يعصر ، فقال مالك : تخرج زكاته من ثمنه ، لا يكلف غير ذلك صاحبه ، ولا يراعى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالا أو مائتي درهم ، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر . وقال الشافعي : يخرج{[6800]} عشره أو نصف عشره من وسطه تمرا إذا أكله أهله رطبا أو أطعموه .
الحادية والعشرون - روى أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر{[6801]} ، وفيما سقي بالسواني{[6802]} أو النضح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سيحا فيه العشر ) . وهو الماء الجاري على وجه الأرض . قاله ابن السكيت . ولفظ السيح مذكور في الحديث ، خرجه النسائي{[6803]} . فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء ، على المشهور من المذهب . ورأى أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح ، فلو سقي مرة بماء السماء ومرة بدالية ، فقال مالك : ينظر إلى ما تم به الزرع وحيي وكان أكثر ، فيتعلق الحكم عليه . هذه رواية ابن القاسم عنه . وروى عنه ابن وهب : إذا سقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسقي بقية السنة بالناضح فإن عليه نصف زكاته عشرا ، والنصف الآخر نصف العشر . وقال مرة : زكاته بالذي تمت به حياته . وقال الشافعي : يزكى واحد منهما بحسابه . مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء ، فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح ! وهكذا ما زاد ونقص بحساب . وبهذا كان يفتي بكار بن قتيبة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : ينظر إلى الأغلب فيزكى ، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك . وروي عن الشافعي . قال الطحاوي : قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوما أو يومين أنه لا اعتبار به ، ولا يجعل لذلك حصة ، فدل على أن الاعتبار بالأغلب ، والله أعلم .
قلت : فهذه جملة من أحكام هذه الآية ، ولعل غيرنا يأتي بأكثر منها على ما يفتح الله له . وقد مضى في " البقرة " {[6804]} جملة من معنى هذه الآية ، والحمد لله .
الثانية والعشرون - وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس في حب ولا تمر صدقة ){[6805]} فخرجه النسائي . قال حمزة الكناني : لم يذكر في هذا الحديث ( في حب ) غير إسماعيل بن أمية ، وهو ثقة قرشي من ولد سعيد بن العاص . قال : وهذه السنة لم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه غير أبي سعيد الخدري . قال أبو عمر : هو كما قال حمزة ، وهذه سنة جليلة تلقاها الجميع بالقبول ، ولم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت محفوظ غير أبي سعيد . وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، ولكنه غريب ، وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن .
الثالثة والعشرون - قوله تعالى : " ولا تسرفوا " الإسراف في اللغة الخطأ . وقال أعرابي أراد قوما : طلبتكم فسرفتكم ؛ أي أخطأت موضعكم . وقال الشاعر :
وقال قائلهم والخيل تخبِطُهم *** أسرفتم فأجبنا أننا سَرَفُ
والإسراف في النفقة : التبذير . ومسرف لقب مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة{[6806]} ؛ لأنه قد أسرف فيها . قال علي بن عبدالله بن العباس :
هم منعوا ذِماري يوم جاءت *** كتائبُ مُسْرِفٍ وبني اللَّكِيعَه{[6807]}
والمعنى المقصود من الآية : لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه . قاله أصبغ بن الفرج . ونحوه قول إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف . وقال ابن زيد : هو خطاب للولاة ، يقول : لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس . والمعنيان يحتملهما قوله عليه السلام : ( المعتدي في الصدقة كمانعها ) . وقال مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا . وفي هذا المعنى قيل لحاتم : لا خير في السرف ، فقال : لا سرف في الخير .
قلت : وهذا ضعيف ، يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا ، فنزلت " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا كله . وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال : جذ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شي : فنزل " ولا تسرفوا " . قال السدي : " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى : " ولا تسرفوا " قال : الإسراف ما قصرت{[6808]} عن حق الله تعالى .
قلت : فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ، ومنه إخراج حق المساكين داخلين ، في حكم السرف ، والعدل خلاف هذا ، فيتصدق ويبقي كما قال عليه السلام : ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ){[6809]} إلا أن يكون قوي النفس غنيا بالله متوكلا عليه منفردا لا عيال له ، فله أن يتصدق بجميع ماله ، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يعن في بعض الأحوال من الحقوق المتعينة في المال . وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : الإسراف ما لم يقدر على رده إلى الصلاح . والسرف ما يقدر على رده إلى الصلاح . وقال النضر بن شميل : الإسراف التبذير والإفراط ، والسرف الغفلة والجهل . قال جرير :
أعطوا هُنيدة يحدوها ثمانية *** ما في عطائهم مَنٌّ ولا سَرَفُ
أي إغفال ، ويقال : خطأ . ورجل سرف الفؤاد ، أي مخطئ الفؤاد غافله . قال طرفة :