معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

قوله تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } يعني : لا يحب الله الجهر بالقبيح من القول إلا من ظلم ، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم ، وأن يدعو عليه ، قال الله تعالى : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } [ الشورى :41 ] قال الحسن : دعاؤه عليه أن يقول : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي منه ، وقيل : إن شتم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه . أخبرنا أبو عبد الله الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أنا علي بن حجر ، أنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( المستبان ما قالا ، فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم .

وقال مجاهد : هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ، ولم يحسنوا ضيافته ، فله أن يشكو ويذكر ما صنع به .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنه قال : " قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى ؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " . وقرأ الضحاك بن مزاحم ، وزيد بن أسلم : { إلا من ظلم } بفتح الظاء واللام ، معناه : لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول ، وقيل معناه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، لكن يجهره من ظلم ، والقراءة الأولى هي المعروفة .

قوله تعالى : { وكان الله سميعاً } لدعاء المظلوم .

قوله تعالى : { عليماً } ، بعقاب الظالم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

{ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }

يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه ، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن ، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين .

وقوله : { إِلَّا مَن ظُلِمَ } أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى{[250]}  منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه ، ومع ذلك فعفوه وعدم مقابلته أولى ، كما قال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }

{ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح ، أخبر تعالى أنه { سميع } فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك . وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن . { عَلِيمٌ } بنياتكم ومصدر أقوالكم .


[250]:- في ب: ويشتكي.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أنه يبغض الجهر بالسوء من القول إلا فى أحوال تقتضى ذلك ، وتوعد الكافرين به ويرسله بالعذاب المهين ، وبشر المؤمنين حق الإِيمان بالأجر العظيم فقال - تعالى : { لاَّ يُحِبُّ الله . . . غَفُوراً رَّحِيماً } .

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ( 148 ) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ( 149 ) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ( 150 ) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 151 ) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 152 )

قوله - تعالى - : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } نهى للمؤمنين عن الاسترسال فى الجهر بالسوء إلا عندما يوجد المقتضى لهذا الجهر .

وعدم محبته - سبحانه - لشئ كناية عن غضبه على فاعله وعدم رضاه عنه ، والجهر بالقول معناه : النطق به فى إعلان ، ونشره بين الناس ، وإذاعته فيهم فهو يقابل السر والإِخفاء .

والقول السوء : هو الذى يسوء من يقال فيه ويؤذيه فى شرفه ، أو عرضه أو غير ذلك مما يلحق به شرا .

والمعنى : لا يحب الله - تعالى - لأحد من عباده أن يجهر بالأقوال السيئة أو الأفعال السيئة ، إلا من وقع عليه الظلم فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول فى الحدود التى تمكنه من رفع الظلم عنه دون أن يتجاوز ذلك ، كأنه يجهر الخصم بما ارتكبه خصمه فى حقه من مآثم . وكأن يذكر المظلوم الظالم بالقول السئ فى المجالس العامة والخاصة متحريا البعد عن الكذب والبهتان .

قال القرطبى ما ملخصه : والذى يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع اقتصاد - إن كان مؤمنا ، فأما أن يقابل القذف بالقذب ونحوه فلا ، وإن كان كافرا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم حيث قال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " .

وإن كان مجارها بالظلم دعا عليه الداعى جهرا ، ولم يكن لهذا المجاهر عرض محترم ، ولا بدن محترم ، ولا بدن محترم ولا مال محترم . وقد روى أبو داود " عن عائشة أنها قالت : سرق لها شئ فجعلت تدعو عليه - أى على السابق - فقال رسول الله صلى الله علي وسلم " لا تسبخى عنه " أى : لا تخففى عنه العقوبة بدعائك عليه . وروى أبو داود - أيضا - عن عمر بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لى الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " أى : المماطلة من القادر على دفع الحقوق لأصحابها ظلم يبيح للناس أن يذكروه بالسوء .

وقول السوء بدون مقتض يبغضه الله سواء أكان هذا القول سرا أو جهرا إلا أنه - سبحانه - خص الجهر بالذكر لأنه أشد فحشا ، ولأنه أكثر جلبا للعداوة بين الناس ، وأشد تأثيرا فى إشاعة الجرائم فى المجتمع ، فإن كثرة سماع الناس للكلام السئ . وللقول الماجن ، يغرى الكثير منهم بترديد ما سمعوه ، وبحكايته فى أول الأمر بشئ من الحياء ، ثم لا يلبث هذا الحياء أن يزول بسبب إلف الناس للكثير من الألفاظ النابية ، والأقوال السيئة .

وأنت تقرأ القرآن فتراه فى عشرات الآيات يأمر أبتاعه بالمداومة على النطق بالكلام الطيب حتى تنتشر بينهم المحبة والمودة . ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } والخلاصة أن الإِسلام يحب لأتباعه أن يلتزموا النطق بالكلمة الطيبة ، ويكره لهم أن يجهروا بالسوء من القول إلا فى حالة وقوع ظلم عليهم ، ففى هذه الحالة يجوز لهم أن يجهروا بالسوء من القول حتى يرتدع الظالم عن ظلمه .

والاسثناء فى قوله { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } استثناء منقطع ، فتكون إلا بمعنى لكن .

أى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لكى يدفع ما وقع عليه من ظلم .

ويحتمل أن يكون متصلا فيكون المعنى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من أحد إلا ممن ظلم فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول لرفع الظلم عنه فيكون الاستثناء من الفاعل المحذوف وهو - من أحد - أو : لا يحب الله الجهر السوء من القول إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله لأن دفع الظلم واجب . فيكون الكلام على تقدير مضاف محذوف .

وقوله : { وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً } تذييل قصد به التحذير من التعدى فى الجهر المأذون فيه ، ووعد للمظلوم بأنه - تعالى - يسمع شكواه ودعاءه ، ويعلم ظلم ظالمه .

أى : وكان الله سميعا لكل ما يسر به المسرون أو يجهر به المجاهرون ، عليما بما يدور فى النفوس من بواعث وهواجس ، وسجيازى كل إنسان بأقواله وأعماله ، إن خيرا فخير ، وإن شراً فشر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

قال [ علي ]{[8521]} بن أبي طلحة عن ابن عباس : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلا مَنْ ظُلِمَ } وإن صبر فهو خير له .

وقال{[8522]} أبو داود : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : سُرق لها شيء ، فجعلت تدعو عليه ، فقال النبي{[8523]} صلى الله عليه وسلم " لا تُسَبّخي عنه " {[8524]} .

وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه ، واستخرج حقي منه . وفي رواية عنه قال : قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه .

وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ؛ لقوله : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] .

وقال{[8525]} أبو داود : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما ، ما لم يعتد المظلوم " {[8526]} .

وقال عبد الرزاق : أنبأنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : " ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي " . فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته .

وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : قال هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج فيقول : " أساء ضيافتي ، ولم يحسن " . وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .

وكذا روي عن غير واحد ، عن مجاهد ، نحو هذا . وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي ، من طريق الليث بن سعد - والترمذي من حديث ابن لَهِيعة - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا{[8527]} فننزل بقوم فلا يَقْرُونا ، فما ترى في ذلك ؟ قال : " إذا نزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا منهم ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " {[8528]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا الجودي يحدث ، عن سعيد بن المهاجر ، عن المقدام أبي كريمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما مسلمٍ ضاف قومًا ، فأصبح الضيف محرومًا ، فإن حقًا على كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله " .

تفرد به أحمد من هذا الوجه{[8529]} وقال أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا شعبة ، حدثني منصور ، عن الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم ، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له عليه ، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه " .

ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة . وعن زياد{[8530]} بن عبد الله البكَّائي . عن وَكِيع ، وأبي نُعَيْم ، عن سفيان الثوري - ثلاثتهم عن منصور ، به . وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة ، عن منصور ، به{[8531]} .

ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار .

حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا محمد بن عَجْلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارا يؤذيني ، فقال له : " أخرج متاعك فضعه على الطريق " . فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق ، فجعل كل من مر به قال : مالك ؟ قال : جاري يؤذيني . فيقول : اللهم العنه ، اللهم أخزه ! قال : فقال الرجل : ارجع إلى منزلك ، وقال{[8532]} لا أوذيك أبدًا " .

وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ، عن محمد بن عجلان به{[8533]} .

ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، ورواه أبو جُحَيفة وهب بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8534]} .


[8521]:زيادة من أ.
[8522]:في ر: "وقد قال".
[8523]:في أ: "فقال رسول الله"
[8524]:سنن أبي داود برقم (4909).
[8525]:في أ: "وقد قال".
[8526]:سنن أبي داود برقم (4894).
[8527]:في ر: "بعثتنا".
[8528]:صحيح البخاري برقم (2461، 6137) وصحيح مسلم برقم (1727) وسنن أبي داود برقم (3752) وسنن الترمذي برقم (1589) وسنن ابن ماجة برقم (3676).
[8529]:المسند (4/133) ولم يتفرد به من هذا الوجه، فقد رواه أبو داود في سننه برقم (3751) من طريق يحيى عن شعبة به.
[8530]:في ر: "زيادة".
[8531]:المسند (4/130 - 133) وسنن أبي داود برقم (3750)
[8532]:في د: "والله".
[8533]:سنن أبي داود برقم (5153) ورواه الحاكم في المستدرك (4/165) من طريق صفوان بن عيس به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
[8534]:أما حديث أبي جحيفة فرواه البزار في مسنده برقم (1903) "كشف الأستار". قال الهيثمي في المجمع (8/170): "فيه أبو عمر المنيهي تفرد عنه شريك وبقية رجاله ثقات.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها أنّ الله لما شوّه حال المنافقين وشهّر بفضائحهم تشهيراً طويلاً ، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفوراً من النفاق وأحواله ، وبغضاً للملموزين به ، وخاصّة بعد أن وصفهم باتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، وأنَّهم يستهزئون بالقرآن ، ونَهى المسلمين عن القعود معهم ، فحذّر الله المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسّمون فيه النفاق ، فيجاهِروهم بقول السوء ، ورخَّص لِمن ظُلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء ، لأنّ ذلك دفاع عن نفسه .

روى البخاري : أنّ رجالاً اجتمعوا في بيت عِتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل : أين مالك بن الدّخْشُم ، فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله ، فقال رسول الله : " لا تقل ذلك ألا تراه قد قال : لا إله إلاّ الله ، يريد بذلك وجهَ الله ، فقال : فإنَّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين " . الحديثَ . فظنّ هذا القائل بمالك أنَّه منافق ، لملازمته للمنافقين ، فوصفه بأنَّه منافق لا يحبّ الله ورسوله . فلعلّ هذه الآية نزلت للصدّ عن المجازفة بظنّ النفاق بمن ليس منافقاً . وأيضاً لمّا كان من أخصّ أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يُبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رياؤهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقاً فأراد الله تبين الفارق بين الحالين .

وجملة { لا يحبّ } مفصولة لأنَّها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بينّاه : الجهر بالسوء من القول ، وقد علم المسلمون أنّ المحبّة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى ، لأنّهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن ، واستنكار القبيح ، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية ، وهما الرضا والغضب .

وصيغة { لا يحبّ } ، بحسب قواعد الأصول ، صيغة نفي الإذن . والأصل فيه التحريم . وهذا المراد هنا ؛ لأنّ { لا يحبّ } يفيد معنى يكره ، وهو يرجع إلى معنى النهي . وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً إلى قوله ويكره لكم قِيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " . فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها مُحرّم أو مكروه .

والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السرّ بالقول في نفس الناطق ممّا ينشأ عنه ضرّ . وتقييده بالقول لأنَّه أضعف أنواع الأذى فيعلم أنّ السوء من الفعل أشدّ تحريماً .

واستثنى { مَن ظُلم } فرَخَّص له الجهرَ بالسوء من القول . والمستثنى منه هو فاعلُ المصدر المقدّر الواقع في سياق النفي ، المفيد للعموم ، إذ التقدير : لا يحبّ الله جَهْر أحد بالسوء ، أو يكون المستثنى مضافاً محذوفاً ، أي : إلاّ جَهْرَ من ظلم ، والمقصود ظاهر ، وقد قضي في الكلام حقّ الإيجاز .

ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّىء ليشفي غضبه ، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد ، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به ، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم { لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول } . وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول ، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه ، أو شكاية ظلمه : أن يقول له : ظلمتني ، أو أنت ظالم ؛ وأن يقول للناس : إنَّه ظالم . ومن ذلك الدعاءُ على الظالم جهراً لأنّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى ، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن ، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف ، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزيز الغيبة ، قائمة في الشريعة . فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه ؛ ومنه ما في الحديث " مَطْلُ الغنيّ ظلم " أي فللممطول أن يقول : فلان مماطل وظالم . وفي الحديث " لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته " . وجملة { وكان الله سميعاً عليماً } عطف على { لا يحبّ } ، والمقصود أنَّه عليم بالأقوال الصادرة كلّها ، عليم بالمقاصد والأمور كلّها ، فذِكْرُ « عليماً » بعد « سميعاً » لقصد التعميم في العلم ، تحذيراً من أن يظنّوا أنّ الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم .