قوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } ]{[10190]}
أحدهما : أنه - تعالى - لمَّا فَضَح المُنَافِقِين وهَتَك سِتْرَهُم ، وكان هَتْكُ السِّتْر غَيْرَ لائقٍ بالرَّحِيم الكريم ، ذكر - تعالى - ما يَجْري مَجْرَى العُذْرِ من ذَلِك ؛ فقال : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } يعني : لا يُحبُّ إظهارَ الفَضَائِحِ ، إلاَّ في حقِّ من عَظُمَ ضَرَرُه وكَثُر كَيْدُه ومَكْرُه ، فَعِنْد ذلك يَجُوز إظْهَار فَضَائِحِه ؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " اذْكُرُوا الفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ " {[10191]} والمُنافِقُون قد كَثُر كيْدهُم ومَكْرهُم{[10192]} وظُلْمهُم ، وضَرَرهُم على المُسْلمِين ؛ فلهذا ذَكَر اللَّه فَضَائِحَهُم وكَشَفَ أسْرَارَهُم .
وثانيهما : أنَّه - تعالى - قال في الآية الأولى : أن المُنافِقِين إذا تَابُوا وأخْلَصُوا ، صارُوا من المُؤمنين ، فيُحْتَمَلُ أن يتُوبَ بَعْضُهم ويُخْلصَ تَوْبَته ، ثم لا يَسْلمُ من التَّغير{[10193]} والذَّمِّ من بَعْضِ المُسْلِمِين ؛ بسبب ما صَدَر عَنْهُ في المَاضِي من النِّفَاقِ ، فبين - تعالى - في هذه الآية أنَّه لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القول ، إلا مَنْ ظَلَم نَفْسَه وأقَامَ على نِفَاقِهِ ، فإنه لا يُكْرَه .
قوله : " بالسُّوء " متعلق ب " الجَهْر " ، وهو مصدر معرف ب " أل " استدلَّ به الفارسيُّ على جواز إعمالِ المصدر المعرَّف ب " أل " . قيل : ولا دليلَ فيه ؛ لأنَّ الظرفَ والجارَّ يعمل فيهما روائحُ الأفعال ، وفاعل هذا المصدر محذوفٌ ، أي : الجَهْر أحد ، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّردُ حذفُه في صُورٍ منها المصْدرُ ، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فعلٍ مبنيٍّ للمفعول على خلافٍ في ذلك ، فيكون الجارُّ بعده في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل ؛ لأنك لو قلْتَ : لا يحبُّ الله أن يُجْهَرَ بالسوء ، كان " بِالسُّوءِ " قائماً مقام الفاعل ، ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به ، و " مِنَ القَوْلِ " حال من " السُّوء " .
قوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } في هذا الاستثناء قولان :
والثاني : أنه منقطع ، وإذا قيل بأنه متصل ، فقيل : هو مستثنى من " أحَد " المقدَّرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر ، فيجوز أن تكون " مَنْ " في محلِّ نصبٍ على أصل الاستثناء ، أو رفعٍ على البدل من " أحَد " ، وهو المختار ، ولو صُرِّح به ، لقيل : لا يُحِبُّ الله أنْ يَجْهَرُ أحَدٌ بالسُّوء إلا المَظْلومُ ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً ، ذكر ذلك مكي{[10194]} وأبو البقاء{[10195]} وغيرُهما ، قال أبو حيان{[10196]} : " وهذا مذهبُ الفراء ، أجاز في " مَا قَامَ إلاَّ زيدٌ " أن يكون " زَيْد " بدلاً من " أحَد " ، وأمَّا على مذهب الجمهور ، فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العاملُ ، فيكون مرفوعاً على الفاعليَّة بالمصدر ، وحسَّن ذلك كونُ الجَهْر في حيِّز النفي ، كأنه قيل : لا يَجْهَرُ بالسُّوءِ من القولِ إلا المظلومُ " انتهى ، والفرقُ ظاهرٌ بين مذهب الفراء وبين هذه الآية ؛ فإن النحويِّين إنما لم يَرَوْا بمذهب الفراءِ ، قالوا : لأن المحذوف صار نَسْياً مَنْسِيًّا ، وأما فاعل المصْدر هنا ، فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً ، فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعل المقدَّر أن يكونوا تابعين لمذْهَب الفرَّاء ؛ لما ظهر من الفرق ، وقيل : هو مستثنى مفرَّغٌ ، فتكون " مَنْ " في محلِّ رفع بالفاعلية ؛ كما تقدَّم في كلام أبي حيان ، والتفريغُ لا يكون إلا في نفي أو شبهه ، ولكنْ لَمَّا وقع الجهْرُ متعلَّقاً للحُبِّ الواقعِ في حيِّز النفْي ساغ ذلك ، وقيل : هو مستثنىً من الجَهْر ؛ على حذف مضافٍ ، تقديرُه : إلا جَهْرَ من ظُلِمَ ، فهذه ثلاثة أوجه على تقدير كونه متَّصِلاً ، تحصَّل منها في محل " مَنْ " أربعةُ أوجه : الرفع من وجهين ، وهما البدلُ من " أحَد " المقدَّر ، أو الفاعليَّة ؛ على كونه مفرَّغاً ، والنصبُ ؛ على أصلِ الاستثناء من " أحد " المقدَّر ، أو من الجهر ؛ على حَذْفِ مضاف .
والثاني : أنه استثناءٌ منقطعٌ ، تقديرُه : لكنْ مَنْ ظُلِمَ له أن ينتصفَ من ظالمه بما يوازِي ظُلامته ، فتكون " مَنْ " في محلِّ نصب فقط على الاستثناء المنقطع .
والجمهورُ على { إِلا مَنْ ظُلِمَ } مبنياً للمفعول قال القرطبي : ويجوز إسْكان اللاَّم ، وقرأ{[10197]} جماعة كثيرة منهم ابن عبَّاس وابن عمر وابن جبير والضحاك وزيد بن أسلم والحسن : " ظَلَمَ " مبنيًّا للفاعل ، وهو استثناء منقطعٌ ، فهو في محلِّ نصب على أصْل الاستثناء المنقطع ، واختلفتْ عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء ، وحاصلُ ذلك يرجعُ إلى أحد تقديرات ثلاثة : إمَّا أن يكون راجعاً إلى [ الجملة الأولى ؛ كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بالسوء ، لكنَّ الظالمَ يُحِبُّهُ ، فهو يَفعلُهُ ، وإما أنْ يكون راجعاً ] إلى فاعل الجَهْر ، أي : لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ أحدٌ بالسُّوء [ لأحَدٍ ] ، لكن الظالِمَ يَجْهَرُ به ، [ وإمَّا أن يكون راجعاً إلى متعلَّق الجَهْر ، وهو " مَنْ يُجاهَرُ ويُواجهُ بالسُّوء " ، أيْ : لا يحبُّ الله أن يُجْهَرَ بالسُّوء لأحدٍ ، لكن الظَّالِمَ يُجْهَرُ لَهُ به ] ، أي : يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه ، لعلَّه أن يرتدع ، وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحلِّ على الانقطاع هو الصحيحُ ، وأجاز ابن عطية والزمخشريُّ أن يكون في محلِّ رفع على البدلية ، ولكن اختلف مدركهما .
فقال ابن عطية{[10198]} : " وإعرابُ " مَنْ " يحتملُ في بعض هذه التأويلاتِ النَّصْبَ ، ويحتملُ الرفع على البدل من " أحَد " المقدَّر " يعني أحداً المقدَّر في المصدر ؛ كما تقدَّم تحقيقه .
وقال الزمخشريُّ{[10199]} : ويجوز أن يكون " مَنْ " مرفوعاً ؛ كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسُّوء إلا الظالِمُ ، على لغةِ من يقولُ : " مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرو " بمعنى : ما جَاءني إلاَّ عَمرٌو " ومنه { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ } [ النمل : 65 ] ، ورد أبو حيان{[10200]} عليهما فقال : " وما ذكره - يعني ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ ؛ وذلك أن المنقطع قسمان : قسمٌ يتوجَّه إليه العامل ؛ نحو : " ما فِيهَا أحَدٌ إلاَّ حِمَارٌ " فهذا فيه لغتان : لغة الحجاز وجوبُ النصب ، ولغةُ تميم جوازُ البدل ، وإن لم يتوجه عليه العامل ، وجب نصبُه عند الجميع ؛ نحو : " المالُ ما زَادَ إلاَّ النَّقْصَ " ، أي : لكن حصل له النقصُ ، ولا يجوز فيه البدل ؛ لأنك لو وجهت إليه العامل ، لم يصحَّ " ، قال : والآيةُ من هذا القسم ؛ لأنك لو قلت : " لا يُحِبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ بالسُّوءِ إلا الظالمُ " - فتسلطُ " يَجْهَر " على " الظَّالِمَ " [ فتسليط يجهر على الظالم يصح ] . قال : " وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشريَّ - لا يجوز ؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لَغْواً ، ولا يمكنُ أن يكون الظالمُ بدلاً من " الله " ، ولا " عَمْرو " بدلاً من " زَيْد " ؛ لأنَّ البدلَ في هذا البابِ يَرْجِع إلى بدل بعضٍ من كلٍّ حقيقة ؛ نحو : " مَا قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيدٌ " ، أو مجازاً ؛ نحو : " مَا فِيهَا أحدٌ إلاَّ حِمَارٌ " ، والآيةُ لا يجوز فيها البدلُ حقيقةً ، ولا مجازاً ، وكذا المثالُ المذكور ؛ لأن الله تعالى عَلَمٌ ، وكذا زيدٌ ، فلا عموم فيهما ؛ ليتوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُستثنى ، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاستثناء المنقطع ؛ فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتوهَّم دخولُه فيه ، فيُبْدلُ ما قبله مجازاً ، وأمَّا قوله على لغة من يقول : " مَا جَاءنِي زَيْدٌ إلا عمرٌو " ، فلا نعلم هذه لغة إلا في كتاب سيبويه{[10201]} ، بعد أن أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرها : [ الطويل ]
عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا *** ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ{[10202]}
[ ما نصُّه : ] " وهذا يُقَوِّي : " ما أتَانِي زَيْدٌ إلا عَمرٌو ، ومَا أعانهُ إخْوَانكُم إلاَّ إخْوانُه " ؛ لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضها " ولم يصرِّح ، ولا لَوَّحَ أن " مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو " من كلام العرب ، قال من شرح كلام سيبويه : فهذا يُقَوِّي " مَا أتَانِي زَيْدٌ إلا عمرٌو " ، أي : ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب ؛ لأن النبل معرفةٌ ليس بالمشرفيِّ ، كما أن زيداً ليس بعمرو ، كما أنَّ إخوة زيدٍ ليسوا إخوتَكَ ، قال أبو حيان : " وليس " مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو " نظير البيت ؛ لأنَّه قد يُتَخَيَّلُ عمومٌ في البيت ؛ إذ المعنى : لا يُغْنِي السلاح ، وأمَّا " زَيْد " فلا يتوهَّم فيه عمومٌ ؛ على أنه لو ورد من كلامهم : " مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو " ، لأمكن أن يصحَّ على " مَا أتَانِي زَيدٌ ولا غَيرُهُ إلاَّ عمرٌو " ، فحذف المعطوفُ ؛ لدلالة الاستثناء عليه ، أمَّا أن يكون على إلغاء الفاعل ، أو على كون " عَمْرو " بدلاً من " زَيْد " ، فإنه لا يجوز ، وأمَّا الآية فليست ممَّا ذكر ؛ لأنه يحتمل أن تكون " مَنْ " مفعولاً بها ، و " الغَيْبَ " بدلٌ منها بدلُ اشتمال ، والتقديرُ : لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلاَّ اللَّهُ ، أي : سِرَّهُمْ وعلانيتَهُمْ لا يَعْلَمُهُم إلا الله ، ولو سُلِّم أن " مَنْ " مرفوعةُ المحلِّ ، فيتخيلَّ فيها عمومٌ ، فيُبدل منها " الله " مجازاً ؛ كأنه قيل : لا يعلمُ المَوْجُودُونَ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ ، أو يكونُ على سبيل المجازِ في الظرفيَّة بالنسبة إلى الله تعالى ؛ إذ جاء ذلك عنه في القرآن والسنة نحو : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] ، قال " أيْنَ الله " قالت : " فِي السَّماءِ " ، ومن كلام العرب : " لا وَذُو في السَّمَاءِ بَيْتُهُ " يعنون اللَّه ، وإذ احتملت الآيةُ هذه الوجوه ، لم يتعيَّنْ حملُها على ما ذكره " انتهى ما رَدَّ به عليهما .
[ وقال شهاب الدين : ]{[10203]} أمَّا ردُّه على ابن عطية ، فواضحٌ ، وأمَّا ردُّه على الزمخشريِّ ، ففي بعضه نَظَرٌ ، أما قوله : " لا نعلمُهَا لغة إلا في كتاب سيبويه " ، فكفى به دليلاً على صحة استعمال مثله ، ولذلك شَرَح الشُّرَّاحُ لكتاب سيبويه هذا الكلام ؛ بأنه قياسُ كلام العرب لما أنشد من الأبيات ، وأمَّا تأويله " مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عمرٌو " ب " مَا أتَانِي ولا غَيْرُهُ " ، فلا يتعيَّنُ ما قاله ، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قول القائل : " مَا أتَانِي زَيْدٌ " قد يوهِمُ أن عمراً أيضاً لم يَجِئْهُ ، فنفى هذا التوهُّمَ ، وهذا القدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع ، ولو كان تأويلُ " مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرٌو " على ما قال ، لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً ، وقد اتفق النحويُّون على أن ذلك من المنقطِعِ ، وأمَّا تأويلُ الآية بما ذكره ، فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خَطِرٌ ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله .
قال المفسرون{[10204]} : معنى { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ } : القَوْل القَبِيح ، { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } فيجوز للمَظْلُوم أن يُخْبِر عن ظُلْمِ الظَّالِمِ ، وأن يَدْعُو عليه ؛ قال - [ تعالى ]{[10205]} - : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] .
قال الحسن دُعَاؤه عليه أن يقول : " اللهُمَّ أعِنِّي عليه ، اللَّهُمَّ استَخْرِج حَقِّي [ اللهم حُل بَيْنِي وبَيْن ما يُرِيد ونحوه من الدعاء{[10206]} ]{[10207]} .
وقيل : إن شُتم جَازَ أن يَشْتُمَ بمثلِهِ ، ولا يَزِيد عَلَيْه .
قال ابن عبَّاس وقتادة : لا يُحِبُّ الله رفْعَ الصَّوْتِ بما يَسُوء غيْرَه ، إلا المَظْلُوم فإنَّ له أنْ يَرْفَع صوْتَهُ بالدُّعَاءِ على ظَالمِهِ{[10208]} .
وقال مُجَاهِد : إلا أنْ يَجْهَر بِظُلْمِ ظالِمِه لَهُ{[10209]} .
وقال الأصَمُّ{[10210]} : لا يَجُوزُ إظهَار الأحْوَال{[10211]} المستُورَة ؛ لأن ذَلِكَ يصير سَبَباً لِوُقُوع النَّاسِ في الغيبَةِ ؛ ووُقُوع ذلك الإنْسَان في الرِّيبَةِ ، ولكن من ظَلَمَ فيجوز{[10212]} إظْهَارُ ظُلْمِهِ ؛ بأن يُذْكَر أنَّه سَرَق أوْ غَصَب .
وقيل : " نزلت في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - فإنَّ رَجُلاً شَتَمَهُ ، فسَكَت مِرَاراً ثُمّ رَدّ عليه ، فقام النَّبِي صلى الله عليه وسلم . فقال أبُو بَكْر : شَتَمَنِي وأنت جَالِسٌ ، فلَّما رَدَدْتُ عليه قُمْتَ . قال : إن ملكاً كان يَرُدُّ عَنْك ، فلما رَدَدْتَ [ عليه ]{[10213]} ذهَبَ المَلَكُ وجاء الشَّيْطَانُ ، فلم أجْلِسْ عند مَجِيء الشَّيْطَانِ " ، فنزلَت الآية{[10214]} .
وقيل : نَزَلَتْ في الضيفِ ؛ روى عُقْبَة بن عَامِرٍ قال : " قُلْنَا يا رسُول الله : إنك تَبْعَثُنا فَنَنْزِلُ على قومٍ لا يُقرُونا فما تَرَى ؟ فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : " إن نَزَلْتُم بِقَومٍ فأمَرُوا لَكُم بما ينْبَغِي للضَّيْفِ ، فاقْبَلُوهُ ، فإنْ لَمْ يَفْعَلُوا ، فَخُذُوا مِنْهُم حَقَّ الضَّيْف الذي يَنْبَغِي لَهُم " {[10215]} .
وقيل : معنى الآيةِ إلا من أكْرِهَ [ على ]{[10216]} أنْ يَجْهَر بسُوءٍ من القولِ كُفْراً كان أو نحوه ، فذلك مُبَاحٌ ، فالآيَةُ على ذَلِك{[10217]} في الإكْرَاه .
قال قُطْرب : { إلا من ظُلِمَ } يريد : المُكْرَه ؛ لأنه مَظْلُومٌ ، قال : ويجُوز أنْ يكون المَعْنَى إلا من ظُلِمَ على البَدَلِ ؛ كأنه قال : لا يُحِبُّ الله إلا مَنْ ظُلِمَ ، أي : لا يُحِبُّ الظَّالِمَ ؛ كأنه يقُول : يُحِبُّ من ظُلِم [ أي : يَأجُرُ من ظُلِمَ ]{[10218]} ، والتقدير على هذا القَوْلِ : لا يُحِبُّ الله ذَا الجَهْرِ بالسُّوءِ إلا مَنْ ظُلِمَ على البَدَلِ .
قال القُرْطُبِيُّ{[10219]} : وظاهر الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ للمَظْلُومِ أن يَنْتَصِر من ظَالمِهِ ولكن مع اقْتِصَادٍ{[10220]} إن كان مُؤمِناً ، كما قال الحسن ، فأمَّا أن يُقَابِلَ القَذْفَ بالقذف ونحوه فلا ، وإن كان كَافِراً فأرْسِلْ لِسَانَك وادْعُ بِمَا شِئْتَ ؛ كما فعل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قال : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ على مُضَر ، واجْعَلْهَا عَلَيْهم سنين كَسِني يُوسُف " {[10221]} .
فصل : لا يحب الله الجهر بالسوء ولا غير الجهر
قال العُلَمَاء : إنه - تعالى - لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ ولا غَيْر الجَهْر ، وإنما ذكر هذا الوصف ؛ لأن كيفيَّة الواقِعَة أوْجَبَتْ ذلك ؛ كقوله - تعالى - : { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } [ النساء : 94 ] والتَّبَيُّن واجِبٌ في الظَّعْنِ والإقَامَة ، فكذا هَهُنَا .
قالت المعتزلةُ{[10222]} : دلت الآيةُ على أنَّهُ لا يُرِيدُ من عِبَادِه فِعْلَ القَبَائِحِ ولا يَخْلُقُها ؛ لأن مَحَبَّة الله عِبَارةٌ عن إرادته ، فلما قال : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } . علمنا أنه لا يُرِيدُ ذلك ، وأيْضاً لو كَانَ خَالِقاً لأفْعَالِ العِبَادِ{[10223]} ، لكان مُرِيداً لَهَا ؛ ولو كان مُريداً لَهَا ، لكان قَدْ أحَبَّ إيجَادَ الجَهْرِ بالسُّوءِ من القَوْلِ ، وهو خِلاَفُ الآيَةِ .
والجواب : المَحبَّة عِبَارَةٌ عن إعْطَاء الثَّوَابِ على القَوْلِ ، وعلى هذا يَصِحُّ أن يُقال : إنَّه - تعالى - أرادَهُ ولكِنَّهُ ما أحَبَّهُ .
ثم قال : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } وهو تَحْذِيرٌ من التَّعَدِّي في الجَهْرِ المأذُونِ فيه ، يعني : فَلْيتَّقِ اللَّه ولا يَقُل إلاَّ الحقَّ ، فإنه سَمِيعٌ لما تقوله ، عليم بما تُضْمِرُه ، وقيل : سَمِيعٌ لِدُعَاءِ المَظْلُوم ، عَلِيمٌ بعِقَابِ الظَّالِمِ .