فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

{ لا يحب الله } نفي الحب كناية عن البغض أي يبغض { الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } قرئ على البناء للمجهول وعلى البناء للمعلوم ، واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم فقيل هو أن يدعو على من ظلمه ، وقيل لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك ، وقيل معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له ، والآية على هذا في الإكراه وكذا قال قطرب .

والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ ( لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ) .

وأما على القراءة الثانية فالاستثناء منقطع أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له .

وقال قوم معنى الكلام لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول ، لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك ، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه .

وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءا فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ، وعن ابن عباس قال : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه ، وإن يصبر فهو خير له .

وقد أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من دعا على من ظلمه فقد انتصر ) {[563]} ، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المتسابان ما قالاه فعلى البادي منهما ما لم يعتد المظلوم ) {[564]} .

قال الحسن : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع ولكن ليقل اللهم أعني عليه اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حل بيني وبين ما يريد ونحوه من الدعاء .

وقيل نزلت في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه فله أن يشكو ما صنع به ، وبه قال مجاهد والأول أولى{[565]} .

وقال مقاتل : نزلت في أبي بكر الصديق وذلك أن رجلا نال منه والنبي حاضر فسكت عنه أبو بكر مرارا ثم رد عليه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا حتى إذا رددت عليه قمت ، قال : إن ملكا كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فقمت{[566]} ونزلت الآية .

{ وكان الله سميعا عليما } هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به .


[563]:ضعيف الجامع/5588.
[564]:مسلم 2587.
[565]:ابن جرير 9/347 ونسبه السيوطي في "الدر" للفريابي وعبد بن حميد وجاء في "تفسير ابن كثير"1/570: قال ابن عباس في تفسير الآية: يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله {إلا من ظلم} وإن صبر فهو خير له وروى أبو داود 2/107، عن عائشة قالت: سرق لها شيء، فجعلت تدعوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبخي عنه" (قال الخطابي: لا تسبخي عنه، أي لا تخففي عنه بدعائك) وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه. وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه لكن إذا افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} وروى أبو داود 4/377 عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم" قلت: ورواه أحمد في المسند14/194 والبخاري في "الأدب المفرد" 1/512، ومسلم4/2000، والترمذي3/139.
[566]:مسند أحمد2/426.