الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148)

قوله تعالى : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ } : " بالسوء " متعلق بالجهر ، وهو مصدر معرف ب " أل " استدل به الفارسي على جوازِ إعمالِ المصدر المعرف بأل . قيل : ولا دليلَ فيه لأنَّ الظرف والجار يعمل فيهما روائح الأفعال . وفاعلُ هذا المصدرِ محذوفٌ أي : الجهر أحد ، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّرد حَذْفُه في صورٍ منها المصدر ، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فِعْل مبني للمفعول على خلاف في ذلك ، فيكون الجار بعده في محل رفع لقيامه مقام الفاعل ، لأنك لو قلت : لا يحب الله أن يُجهر بالسوء ، كان " بالسوء " قائماً مقامَ الفاعل ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به . و " من القول " حال من " السوء " .

قوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه متصل والثاني : أنه منقطع ، وإذا قيل بأنه متصل فقيل : هو مستثنى من " أحد " المقدرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر ، فيجوز أن تكون " مَن " في محلِّ نصبٍ على أصل الاسثناء أو رفعٍ على البدل من " أحد " وهو المختار ، ولو صُرِّح به لقيل : لا يحبُّ الله أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء إلا المظلومُ ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما . قال الشيخ : " وهذا مذهب الفراء ، أجاز في " ما قام إلا زيدٌ " أن يكون " زيد " بدلاً من " أحد " وأمَّا على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العامل فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر ، وحَسَّنَ ذلك كونُ الجهر في حَيِّز النفي ، كأنه قيل : لا يَجْهَرُ بالسوء من القول إلا المظلومُ " انتهى . والفرقُ ظاهر بين مذهب الفراء وبين هذه الآية ، فإن النحويين إنما لم يَرَوا بمذهب الفراء قالوا : لأن المحذوف صار نَسْياً منسياً ، وأما فاعل المصدر هنا فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعلِ المقدر أن يكونوا تابعين لمذهب الفراء لِما ظهر من الفرق . وقيل : هو مستثنى مفرغ ، فتكون " مَنْ " في محل رفع بالفاعلية كما تقدَّم تقريرُه في كلام الشيخ ، والتفريغُ لا يكون إلا في / نفي أو شهبه ، ولكنْ لَمَّا وقع الجهر متعلقاً للحبِّ الواقعِ في حَيِّز النفي ساغ ذلك . وقيل : هو مستثنى من الجَهْر على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : إلا جَهْرَ مَنْ ظُلِم ، فهذه ثلاثة أوجه على تقديرِ كونه متصلاً ، تحصَّل منها في محل " مَنْ " أربعةُ أوجه : الرفع من وجهين وهما البدل من " أحد " المقدر ، أو الفاعلية على كونه مفرغاً ، والنصبُ على أصلِ الاستثناء من " أحد " المقدَّر أو من الجهر على حَذْفِ مضاف .

والثاني : أنه استثناءٌ منقطعٌ ، تقديرُه : لكنْ مَنْ ظُلِم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازي ظلامتَه فتكون " مَنْ " في محل نصب فقط على الاستثناء المنقطع .

والجمهورُ على " إلاَّ مَنْ ظُلِمَ " مبنياً للمفعول ، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عباس وابن عمر وابن جبير والحسن : " ظَلَم " مبنياً للفاعل ، وهو استثناء منقطع ، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع ، واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء ، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقديرات ثلاثة : إمَّا أن يكون راجعاً إلى الجملة الأولى كأنه قيل : لا يحب اللَّهُ الجهرَ بالسوء ، لكنَّ الظالمَ يحبه فهو يفعله ، وإما أَنْ يكونَ راجعاً إلى فاعل الجهر أي : لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء ، لكن الظالم يَجْهر به ، وإمَّا أن يكون راجعاً إلى متعلق الجهر وهو " مَنْ يُجاهَرُ ويُواجَه بالسوء " أي : لا يحب الله أن يُجْهَر بالسوء لأحد لكن الظالم يُجْهَرُ له به ، أي : يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه ، لعله أن يَرْتدع . وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحل على الانقطاع هو الصحيح ، وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكونَ في محلِّ رفع على البدلية ، ولكن اختلف مدركُهما فقال ابن عطية : " وإعراب " مَنْ " يحتمل في بعض هذه التأويلات النصبَ ، ويحتمل الرفع على البدل من " أحد " المقدر " يعني احداً المقدرَ في المصدر كما تقدَّم تحقيقُه . وقال الزمخشري : و " يجوز أن يكون " مَنْ " مرفوعاً كأنه قيل : لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسوء إلا الظالمُ ، على لغةِ مَنْ يقول : " ما جاءني زيدٌ إلا عمروٌ " بمعنى : ما جاءني إلا عمرو ، ومنه { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ }

[ النمل : 65 ] . ورد الشيخ عليهما فقال : " وما ذكره - يعني ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ ، وذلك أن المنقطع قسمان : قسمٌ يتوجه إليه العامل نحو : " ما فيها أحدٌ إلاِ حمار " فهذا فيه لغتان : لغة الحجاز وجوب النصب ، ولغةُ تميم جوازُ البدل ، وإن لم يتوجه عليه العامل وجب نصبُه عند الجميع نحو : " المالُ ما زاد إلا النقصَ " أي : لكن حصل له النقص ، ولا يجوز فيه البدل ، لأنك لو وجهت إليه العامل لم يصح " قال : " والآية من هذا القسمِ ، لأنك لو قلت : " لا يحبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ بالسوءِ إلا الظالمُ " فتسلِّطُ " يجهر " على " الظالم " لم يصح وقال : " وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشري- لا يجوز لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لغواً ولا يمكن أن يكونَ الظالمُ بدلاً من " الله " ولا " عمرو " بدلاً من " زيد " لأنَّ البدلَ في هذا الباِبِ يَرْجِع إلى بدل بعض من كل حقيقة نحو : " ما قام القومُ إلا زيدٌ " أو مجازاً نحو : " ما فيها أحدٌ إلا حمارٌ ، والآيةٌ لا يجوز فهيا البدلُ حقيقةً ولا مجازاً ، وكذا المثالُ المذكور ، لأن الله تعالى عَلَمٌ وكذا زيدٌ فلا عمومَ فيهما ليُتَوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُسْتثنى ، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاسثناء المنقطع فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتَوَهَّم دخولُه فيه فيُبْدل ما قبله مجازاً ، وأمَّا قولُه على لغةِ مَنْ يقول : " ما جاءني زيد إلا عمروٌ " فلا نعلمُ هذه لغةً إلا في كتاب سيبويه بعد أَنْ أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرُها .

عَشِيَّةَ ما تُغْني الرماحُ مكانَها *** ولا النبلُ إلا المشرفيُّ المُصَمَّمُ

ما نصُّه : " وهذا يقوِّي : " ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ ، وما أعانَه إخوانُكم إلا إخوانُه " لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضَها " ولم يصرِّح ولا لَوَّح أن " ما أتاني زيدٌ إلا عمرو " من كلام العرب ، قال مَنْ شَرَح كلام سيبويه : " فهذا يُقَوِّي " ما أتاني زيدٌ إلا عمرو " أي : ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب لأن النبلَ معرفةٌ ليس بالمشرفي ، كما أن زيداً ليس بعمرو ، كما ان إخوة زيد ليسوا إخوتك . قال الشيخ : " وليس ما أتاني زيدٌ إلا عمرو " نظيرَ البيت ؛ لأنّه قد يُتَخَيَّل عمومٌ في البيت إذ المعنى : لا يُغْني السلاح ، وأمَّا " زيد " فلا يُتَوهم فيه عموم على أنه لو ورد من كلامهم : " ما أتاني زيدٌ إلا عمرو " لأمكن أن يَصِح على " ما أتاني زيد ولا غيره إلا عمروٌ " فحُذِف المعطوفُ لدلالة الاستثناء عليه ، أمَّا أن يكونَ على إلغاء الفاعل أو على كون " عمرو " بدلاً من " زيد " فإنه لا يجوز ، وأمَّا الآية فليست مِمَّا ذَكَر ، لأنه يحتمل أن تكونَ " مَنْ " مفعولاً بها ، و " الغَيبَ " بدلٌ منها بدلُ اشتمال ، والتقديرُ : لايعلم غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلا اللَّهُ أي : سِرَّهم وعلانيتهم لاَ يَعْلَمها إلا الله ، ولو سُلِّم أنَّ " مَنْ " مرفوعةٌ المحل فيتخيل فيها عمومٌ فيُبدل منها " الله " مجازاً كأنه قيل : لا يَعْلَمُ الموجودون الغيبَ إلا اللَّهُ ، أو يكونُ على سبيلِ المجازِ في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى ، إذ جاء ذلك عنه في القرآنِ والسنة نحو : *** { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ]

{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] ، قال : " أين الله " قالت : " في السماء " ومِنْ كلامِ العرب : " لاوذو في السماءِ بيتُه " يعنون اللَّهَ ، وإذا احتملت الآيةُ هذه الوجوه لم يتعين حملُها على ما ذكره " انتهى ما رَدَّ به عليهما .

أمَّا ردُّه على ابن عطية فواضحٌ ، وأمَّا ردُّه على الزمخشري / ففي بعضه نظر ، أما قوله " لا نعلمها لغةً إلى في كتاب سيبويه " فكفى به دليلا على صحة استعمالِ مثله ، ولذلك شرح الشراح لكتاب سيبويه هذا الكلامَ بأنه قياسُ كلام العرب لِما أَنْشد من الأبيات . وأمَّا تأويلُه " ما أتاني زيدٌ إلا عمروٌ " ب " ما أتاني زيد ولا غيرُه " فلا يتعيَّن ما قاله ، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قولَ القائل " ما أتاني زيد " قد يُوهم أن عمراً أيضاً لم يَجِئه فنفى هذا الوهمَ ، وهذا القَدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع ، ولو كان تأويل " ما أتاني زيد إلا عمروٌ " على ما قال لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً ، وقد اتفق النحويون على ان ذلك من المنقطع ، وأمّا تأويلُ الآية بما ذكره فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خطرٌ ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله .