قوله تعالى :{ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي } لا يقضي ولا يغني ، { والد عن ولده ولا مولود هو جاز } مغن ، { عن والده شيئاً } قال ابن عباس : كل امرئ تهمه نفسه ، { إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } يعني الشيطان . قال سعيد بن جبير : هو أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة .
{ 33 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }
يأمر تعالى الناس بتقواه ، التي هي امتثال أوامره ، وترك زواجره ، ويستلفتهم لخشية يوم القيامة ، اليوم الشديد ، الذي فيه كل أحد لا يهمه إلا نفسه ف { لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } لا يزيد في حسناته ولا ينقص من سيئاته ، قد تم على كل عبد عمله ، وتحقق عليه جزاؤه .
فلفت النظر في هذا لهذا اليوم المهيل ، مما يقوي العبد ويسهِّل عليه تقوى اللّه ، وهذا من رحمة اللّه بالعباد ، يأمرهم بتقواه التي فيها سعادتهم ، ويعدهم عليها الثواب ، ويحذرهم من العقاب ، ويزعجهم إليه بالمواعظ والمخوفات ، فلك الحمد يا رب العالمين .
{ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } فلا تمتروا فيه ، ولا تعملوا عمل غير المصدق ، فلهذا قال : { فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } بزينتها وزخارفها وما فيها من الفتن والمحن .
{ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } الذي هو الشيطان ، الذي ما زال يخدع الإنسان ولا يغفل عنه في جميع الأوقات ، فإن للّه على عباده حقا ، وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم ، وهل وفوا حقه أم قصروا فيه .
وهذا أمر يجب الاهتمام به ، وأن يجعله العبد نصب عينيه ، ورأس مال تجارته ، التي يسعى إليها .
ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه ، الدنيا الفتانة ، والشيطان الموسوس الْمُسَوِّل ، فنهى تعالى عباده ، أن تغرهم الدنيا ، أو يغرهم باللّه الغرور { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا }
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بدعوة الناس إلا الاستعدد ليوم الحساب وإلى مراقبة الله - تعالى - فى كل أحوالهم ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ منها . فقال : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ . . . . عَلَيمٌ خَبِيرٌ } .
والمعنى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ } بأن تطيعوه ولا تعصوه ، وبأن تشكروه ولا تكفروه ، واخشوا يوما ، أى : وخافوا أهوال يوم عظيم .
{ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } أى : لا يستطيع والد أن ينفع ولده بشئ من النفع فى هذا اليوم . أو أن يقضى عنه شيئا من الأشياء .
{ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } أى : ولا يستطيع المولود - أيضا - أن يدفع عن والده شيئا مما يحتاجه منه .
وخص - سبحانه - الوالد والمولود بالذكر ، لأن رابطة المحبة والمودة بينهما هى أقوا الروابط وأوثقها ، فإذا انتفى النفع بينهما فى هذا اليوم ، كان انتفاؤه بالنسبة لغيرها من باب أولى .
وقوله : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أى : إن ما وعد الله - تعالى - به عباده من البعث والحساب والثواب والعقاب ، حق وثابت ثبوتا لا يقبل الشك أو التخلف .
وما دام الأمر كذلك { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } أى : فلا تخدعنكم الحياة الدنيا بزخارفها وشهواتها ومتعها ، ولا تشغلنكم عن طاعة الله - تعالى - وعن حسن الاستعداد لهذا اليوم الهائل الشديد . فإن الكيسِّ الفطن هو الذى يتزود لهذا اليوم بالإِيمان الحق ، والعمل الصالح النافع .
{ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } أى : ولا يصرفنكم الشيطان عن طاعة الله ، وعن امتثال أمره . فالمراد بالغرور : الشيطان . أو كل ما يصرفك عن طاعة الله - تعالى .
قال الآلوسى : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } أى : الشيطان ، كما روى عن ابن عباس وغيره . بأن يحملكم على المعاصى بتزيينها لكم . . وعن أبى عبيدة : كل شئ غرك حتى تعصى الله - تعالى - فهو غرور سواء أكان شيطانا أم غيره وعلى ذلك ذهب الراغب فقال : الغرور كل ما يغر الإِنسان من مال أو جاه أو شهوة أو شيطان . . وأصل الغرور : من غر فلان فلانا ، إذا أصاب غرته ، أى : غفلته ، ونال منه ما يريد . به الخداع .
والظاهر أن " بالله " صلة " يغرنكم " أى : لا يخدعنكم بذكر شئ من شئونه - تعالى - ، يجركم بها على معاصيه - سبحانه .
يقول تعالى منذرا للناس يوم المعاد ، وآمرا لهم بتقواه والخوف منه ، والخشية من يوم القيامة حيث { لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ } أي : لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه . وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يتقبل منه .
ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله : { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } [ أي : لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة ]{[22991]} . { وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } يعني : الشيطان . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة . فإنه يغر ابن آدم ويَعدهُ ويمنيه ، وليس من ذلك شيء بل كما قال تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 120 ] .
قال وهب بن منبه : قال عزير ، عليه السلام : لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر همي ، وأرق نومي ، فضرعت{[22992]} إلى ربي وصليت وصمت فأنا في ذلك أتضرع أبكي إذ أتاني الملك فقلت له : أخبرني هل تشفع أرواح المصدقين{[22993]} للظلمة ، أو الآباء لأبنائهم ؟ قال : إن القيامة فيها {[22994]} فصل القضاء وملك ظاهر ، ليس فيه رخصة ، لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن ، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده ، ولا ولد عن والده ، ولا أخ عن أخيه ، ولا عبد عن سيده ، ولا يهتم أحد بغيره{[22995]} ولا يحزن لحزنه ، ولا أحد يرحمه ، كل مشفق على نفسه ، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان ، كل يَهُم همه ويبكي عَوله ، ويحمل وزره ، ولا يحمل وزره معه غيره . رواه ابن أبي حاتم .
{ يجزي } معناه يقضي ، والمعنى : لا ينفعه بشيء ولا يدفع عنه ، و { هو جاز } جملة في موضع الصفة ، أي ولا يجزي مولود قد كان في الدنيا يجزي{[9390]} ، و { الغرور } التطميع بما لا يتحصل ، و { الغرور } الشيطان ، بذلك فسر مجاهد والضحاك وقال هو الأمل والتسويف ، وقرأ سماك بن حرب{[9391]} وأبو حيوة «الغُرور » بضم العين ، وقال سعيد بن جبير : معنى الآية أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة ، وقرأ الجمهور «يَجزي » بفتح الياء من جزا ، وقرأ عكرمة «يُجزي » بضم الياء على ما لم يسم فاعله ، وحكى ابن مجاهد قراءة «لا يُجزىء » بضم الياء والهمز وفي رفع «مولودٌ » اضطراب من النحاة قال المهدوي : ولا يكون مبتدأ لأنه نكرة وما بعده صفة له فيبقى بغير خبر{[9392]} .
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب «ولا يغرنكم » خفيفة النون .