الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ} (33)

وقوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } [ لقمان : 33 ] .

يَجْزِي مَعْنَاه يَقْضي ، والمعنى : لا ينفعه بشيء ، وقرأ الجمهور : «الغَرور » : بفتح الغَيْنِ وهو الشيطانُ ، قاله مجاهد وغيره . واعلم أيها الأخ أنّ مَنْ فَهِمَ كَلامَ رَبِّه وَرُزِقَ التوفيقَ لم يَنْخَدِعْ بغُرورِ الدنيا وزخرفها الفاني بَل يَصْرِفُ هِمَّتَه بالكُلِّيَةِ إلى التزود لآخرته ، ساعياً في مَرْضَاةِ ربه ، وأنَّ مَنْ أيقنَ أنَّ اللّهَ يطلبُه صَدَقَ الطلبَ إليه ، كما قاله الإمام العارفُ باللّه ابن عطاء اللّه وأنه لا بد لبناءِ هذا الوجودِ أن تَنْهَدِمَ دعائمُه وأن تسلب كرائِمهُ ، فالعاقل من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى ، قد أشرق نورُه وظهرت تباشيرُه ، فَصَدَفَ عن هذه الدار مُغْضِياً ، وأعرض عَنها مولياً ، فلم يتخذْها وطناً ، ولا جعلها سكناً ، بل أنْهَضَ الهمَّةَ فيها إلى اللّهِ تعالى وَصَارَ فِيهَا مُسْتَعِيناً به في القدومِ عليه ، فما زالت مطيةُ عَزْمِهِ لا يَقِرُّ قرارُها . دائماً تَسْيَارُهَا ، إلى أن أناخَتْ بِحَضْرَةِ القُدَسِ ، وبساطِ الإنْسِ ، انتهى .

وَرَوَيْنَا في «جامع الترمذي » عن أبي أُمَامَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفٌ الحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلاَةِ ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرَّ ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ لاَ يُشَارُ إلَيْهِ بِالأَصَابِعِ ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً فَصَبَرَ على ذَلِكَ ، ثُمَّ نَفَضَ بِيَدِهِ فَقَالَ : عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ ، قَلَّتْ نَوَائِحُهُ قَلَّ تراثه ) ، قال أبو عيسى : وبهذا الإسنادِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْمَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً ، قُلْتُ لاَ ، يَا رَبِّ ، ولكن أَشْبَعُ يَوْماً وَأَجُوعُ يَوْماً ، أَوْ قَالَ : ثَلاَثاً أَوْ نَحْوَ هذا ، فَإذَا جُعْتُ ، تَضَرَّعْتُ إلَيْكَ ، وَإذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ ) ، قال أبو عيسى : هذا حَديثٌ حسنٌ ، وفي الباب عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ انتهى .

والغُرُورُ : التَّطْمِيعُ بما لا يَحْصُلُ ، وقال ابن جُبَيْرٍ : معنى الآية : أن تَعملَ المعصيةَ وتَتَمَنَّى المغفرة .