نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ} (33)

ولما ظهرت{[54300]} بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة ، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة ، وأعربت ألسن{[54301]} القدرة عن دلائل الوحدانية ، فلم تدع شيئاً من العجمة ، فظهر{[54302]} كالشمس أنه لا بد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب ، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه ، وخوّفهم ما{[54303]} هم صائرون إليه ، منادياً لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح{[54304]} آنفاً فقال : { يا أيها الناس } أي عامة ، {[54305]}ولفت الكلام إلى الوصف المذكر{[54306]} بالإحسان ترغيباً وترهيباً فقال : { اتقوا ربكم } أي الذي لا إله لكم{[54307]} غيره ، لأنه لا محسن إليكم غيره ، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه ، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر .

ولما كانت وحدة الإله{[54308]} الملك توجب الخوف منه ، لأنه لا مكافئ له ، وكان إن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على أعمالهم لا يخشى كما يخشى{[54309]} إذا علم منه أنه يستعرضهم قال : { واخشوا يوماً } لا يشبه الأيام ، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه .

ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه{[54310]} فتر{[54311]} ذلك من خوفه ، وكان ما بين الوالد والولد{[54312]} من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة{[54313]} والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما{[54314]} بين غيرهما ، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال : { لا يجزي } أي يغني فيه ، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه{[54315]} الدار أسباباً ستر قدرته بها ، فصار الجاهل يحيل الأمرعليها ويسنده إليها ، وأما هناك{[54316]} فتزول الأسباب ، وينجلي غمام الارتياب ، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب .

ولما كانت شفقة الوالد - مع شمولها لجميع أيام حياته - أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال{[54317]} بدأ به فقال : { والد } كائناً من كان { عن ولده } أي{[54318]} لا يوجد منه{[54319]} ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء وإن تحقق أن الولد منه ، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ، وتجدد عنده العطف والرقة ، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد ، وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده{[54320]} .

ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه ، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال : { ولا مولود } أي مولود كان { هو جاز عن والده } وإن علم أنه بعضه{[54321]} { شيئاً } من الجزاء ، وفي التعبير ب " هو " إشعار بأن المنفي{[54322]} نفعه بنفسه ، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط ، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق ، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه ، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد{[54323]} عليه يوجب عليه{[54324]} ملازمة الدفع عنه ، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه ، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال : أنه يخيط ، ولا يصح " خياط " لأن ذلك ليس من صنعته ، ولا من شأنه .

ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم{[54325]} يقول : هل هذا اليوم كائن حقاً ؟ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكداً لمكان{[54326]}

إنكارهم ، {[54327]}لافتاً القول إلى الاسم الأعظم{[54328]} لاقتضاء {[54329]}الوفاء له{[54330]} : { إن وعد الله } الذي له جميع معاقد{[54331]} العز والجلال { حق } يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله ، وعظيم قدرته وكماله ، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلاً عن أوهامكم أن يخلفه مع أن{[54332]} أدناكم - أيها العرب كافة - لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب{[54333]} في ذلك الأخطار ، وعانى فيه الشدائد الكبار ، فلما ثبت أمره ، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم ، {[54334]}لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات ، تسبب عنه قوله : { فلا تغرنكم } مؤكداً{[54335]} لعظم الخطب { الحياة الدنيا } أي بزخرفها ، ولا{[54336]} ما يبهج من{[54337]} لا تأمل له من فاني رونقها ، {[54338]}وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم من الألف بالحاضر{[54339]} مُعم لهم عما فيه من الزور ، والخداع الظاهر والغرور ، فقال مظهراً غير مضمر لأجل زيادةً التنبيه والتحذير : { ولا يغرنكم بالله } الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم { الغرور * } أي{[54340]} الكثير الغرور المبالغ فيه ، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه ، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ، ويلهيكم به من تعظيم قدرها ، وينسيكموه من كيدها وغدرها ، وتعبها وشرها ، وأذاها {[54341]}وضرها{[54342]} ، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم ، فلا تعدونه معاداً ، فلا تتخذون له{[54343]} زاداً ، لما اقترن بغروره{[54344]} من حلم{[54345]} الله وإمهاله ، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه{[54346]} : الغرة بالله أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة .


[54300]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ظهر.
[54301]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: السنة.
[54302]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فظهرت.
[54303]:في ظ: بما.
[54304]:زيد في الأصل: به، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54305]:العبارة من هنا إلى "ترهيبا فقال" ساقطة من م.
[54306]:من ظ ومد، وفي الأصل: المذكور.
[54307]:زيد من ظ وم ومد.
[54308]:زيد من م.
[54309]:زيد في ظ: أنه.
[54310]:زيد من ظ وم ومد.
[54311]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فترد.
[54312]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الوالد.
[54313]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المحاباة.
[54314]:في ظ ومد: ما.
[54315]:في ظ: هذا.
[54316]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: هنا.
[54317]:زيد من ظ وم ومد.
[54318]:زيد من ظ وم ومد.
[54319]:سقط من ظ.
[54320]:سقط ما بين الرقمين من م.
[54321]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بضعة.
[54322]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: النهي.
[54323]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: للوالد.
[54324]:سقط من ظ.
[54325]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: حللم ـ كذا.
[54326]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بمكان.
[54327]:العبارة من هنا إلى "الوفاء له" ساقطة من م.
[54328]:سقط من ظ.
[54329]:في الأصل بياض، ملأناه من ظ ومد.
[54330]:في الأصل بياض، ملأناه من ظ ومد.
[54331]:من م ومد، وفي الأصل: ما عاقد، وفي ظ: منافاة.
[54332]:زيد من ظ وم ومد.
[54333]:في ظ: اختلف.
[54334]:زيدت الواو في ظ.
[54335]:سقط من ظ.
[54336]:زيد من ظ ومد.
[54337]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لمن.
[54338]:العبارة من هنا إلى "والتحذير" ساقطة من م.
[54339]:من ظ ومد، وفي الأصل: الحاضر.
[54340]:زيد من ظ وم ومد.
[54341]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[54342]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[54343]:سقط من ظ.
[54344]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بغروركم.
[54345]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: حكم.
[54346]:راجع معالمك التنزيل بهامش اللباب 5/182.