قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم } قال ابن عباس : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا ، وأرادوا أن يهاجروا إلى المدينة ، فمنعهم أزواجهم وأولادهم ، وقالوا : صبرنا على إسلامكم فلا نصبر على فراقكم ، فأطاعوهم ، وتركوا الهجرة فقال تعالى : { فاحذروهم } أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة . { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } هذا فيمن أقام على الأهل والولد ولم يهاجر ، فإذا هاجر رأى الذين سبقوه بالهجرة قد فقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجه وولده الذين ثبطوا عن الهجرة ، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ولم يصبهم بخير ، فأمرهم الله عز وجل بالعفو عنهم والصفح . وقال عطاء ابن يسار : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي : كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه ، وقالوا : إلى من تدعنا ؟ فيرق لهم ويقيم ، فأنزل الله : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } بحملهم إياكم على ترك الطاعة ، فاحذروهم أن تقبلوا منهم . وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ، فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فإن الله غفور رحيم .
{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا تحذير من الله للمؤمنين ، من الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه{[1128]} والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد ، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي{[1129]} ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية ، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك ، من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل .
فمن عفا عفا الله عنه ، ومن صفح صفح الله عنه ، ومن غفر غفر الله له ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم ، نال محبة الله ومحبة عباده ، واستوثق له أمره .
وفى نهاية السورة الكريمة ، وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، حذرهم فيه من فتنة الأزواج والأولاد والأموال ، وحضهم على مراقبته وتقواه ، وحذرهم من البخل والشح ، ووعدهم بالأجر العظيم متى أطاعوه . . . . فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ . . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رجلا يسأله عن هذه الآيات فقال : هؤلاء رجال أسلموا من مكة ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أولادهم وأزواجهم أن يتركوهم - ليهاجروا .
فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أى بالمدينة - رأوا الناس قد تفقهوا فى الدين ، فهموا أن يعاقبوهم - أى : يعاقبوا أولادهم وأزواجهم - فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات .
وفى رواية أخرى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت بالمدينة فى عوف بن مالك الأشجعى ، شكى إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده فنزلت .
وصدرت الآيات الكريمة بالنداء بصفة الإيمان ، لحضهم على الاستجابة لما اشتملت عليه هذه الآيات من توجيهات سامية وإرشادات عالية . . . فإن من شأن الإيمان الحق ، أن يحمل صاحبه على طاعة الله - عز وجل - .
و " من " فى قوله { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ . . } للتبعيض .
والمراد بالعداوة ما يشمل العداوة الدينية والدنيوية ، بأن يكون هؤلاء الأولاد والأزواج يضمرون لآبائهم وأزواجهم العداوة والبغضاء وسوء النية ، يسبب الاختلاف فى الطباع أو فى العقيدة والأخلاق .
والعفو : ترك المعاقبة على الذنب بعد العزم على هذه المعاقبة .
والصفح : الإعراض عن الذنب وإخفاؤه ، وعدم إشاعته .
أى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، إن بعض أزواجم وأولادكم ، يعادونكم ويخالفونكم فى أمر دينكم . وفى أمور دنياكم ، { فاحذروهم } أى : فاحذروا أن تطيعوهم فى أمر يتعارض مع تعاليم دينكم ، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق .
{ وَإِن تَعْفُواْ } - أيها المؤمنون - عنهم ، بأن تتركوا عقابهم بعد التصميم عليه { وَتَصْفَحُواْ } عنهم ، بأن تتركوا عقابهم بدون عزم عليه . . . { وَتَغْفِرُواْ } ما فرط منهم من أخطاء ، بأن تخفوها عليهم .
وقوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قائم مقام جواب الشرط . أى : وإن تفعلوا ذلك من العفو والصفح والمغفرة ، يكافئكم الله - تعالى - على ذلك مكافأة حسنة ، فإن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لمن يعفون ويصفحون ويغفرون .
يقول تعالى مخبرًا عن الأزواج والأولاد : إن منهم من هو عدو الزوج والوالد ، بمعنى : أنه يلتهى به عن العمل الصالح ، كقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { فاحذروهم } قال ابن زيد : يعني على دينكم .
وقال مجاهد : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ } قال : يحملُ الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه ، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه . وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني{[28927]} حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سمَاك بن حرب ، عن عِكْرمة ، عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } - قال : فهؤلاء رجال أسلموا من مكة ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناسَ قد فقهوا في الدين ، فَهَمُّوا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله هذه الآية : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى ، عن الفريابي - وهو محمد بن يوسف - به{[28928]} وقال حسن صحيح . ورواه ابن جرير والطبراني ، من حديث إسرائيل ، به{[28929]} ورُوي من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، نحوه ، وهكذا قال عكرمة مولاه سواء .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم . . . } إلى آخر السورة قرآن مدني ، اختلف الناس في سببه ، فقال عطاء بن أبي رباح : إنه نزل في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه أراد غزواً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وتشكوا إليه فراقه ، فرق ولم يغز ، ثم إنه ندم وهم بمعاقبتهم ، فنزلت الآية بسببه محذرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم ، ثم صرفه تعالى عن معاقبتهم بقوله : { وإن تعفوا وتصفحوا } وقال بعض المفسرين سبب الآية : إن قوماً آمنوا بالله وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا إلا بعد مدة ، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين ، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم .
إقبال على خطاب المؤمنين بما يفيدهم كمالاً ويجنبهم ما يفتنهم .
أخرج الترمذي « عن ابن عباس أن رجلاً سأله عن هذه الآية فقال : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبَى أزواجهم وأولادُهم أن يَدعوهم ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد مدة وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين أي سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة فَهَمُّوا أن يعاقبوهم على ما تسببوا لهم حتى سبقهم الناس إلى الفقه في الدين فأنزل الله هذه الآية : أي حتى قوله : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } . وهو الذي اقتصر عليه الواحدي في « أسباب النزول » ومقتضاه أن الآية مدنية » .
وعن عطاء بن يسار وابن عباس أيضاً أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد الغزو بَكَوا إليه ورققوه وقالوا : إلى من تَدعنا ، فيرقُّ لهم فيقعد عن الغزو . وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنهم . فهذه الآية مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ويكون موقعها هذا سبب نزولها صادف أن كان عقب ما نزل قبلها من هذه السورة .
والمناسبة بينها وبين الآية التي قبلها لأن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غَمّ من معاملة أعدائهم إياهم ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم .
وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب ، وثناء أو ملام ، أو نحو ذلك ليوفّى الطرفان حقيهما ، وكانت تنبيهاً للمسلمين لأحوال في عائلاتهم قد تخفى عليهم ليأخذوا حذرهم ، وهذا هو المناسب لما قبل الهجرة كان المسلمون بمكة ممتزجين مع المشركين بوشائج النسب والصهر والولاء فلما ناصبهم المشركون العداء لمفارقتهم دينهم وأضمروا لهم الحقد وأصبحوا فريقين كان كل فريق غير خال من أفراد متفاوتين في المضادة تبعاً للتفاوت في صلابة الدين ، وفي أواصر القرابة والصهر ، وقد يبلغ العداء إلى نهاية طرفه فتندحض أمامة جميع الأواصر فيصبح الأشد قرباً أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد .
فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرّهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم فيكون ضرهم أشد عليهم وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين ولذلك قال تعالى : { فاحذروهم } ولم يأمر بأن يضروهم ، وأعقبه بقوله : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } ، جمعاً بين الحذر وبين المسالمة وذلك من الحزم .
و { مِن } تبعيضية . وتقديم خبر { إنَّ } على اسمها للاهتمام بهذا الخبر ولما فيه من تشويق إلى الاسم ليتمكن مضمون هذا الخبر في الذهن أتم تمكن لما فيه من الغرابة والأهمية . وقد تقدم مثله عند قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } في سورة [ البقرة : 8 ] .
وعَدُوّ وصف من العداوة بوزن فَعول بمعنى فاعل فلذلك لزم حالة الإفراد والتذكير إذا كان وصفاً ، وقد مضى ذلك عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدوّ لكم } في سورة [ النساء : 92 ] . فأما إذا أريد منه معنى الاسمية فيطابق ما أجري عليه ، قال تعالى : { يكونوا لكم أعداء } [ الممتحنة : 2 ] .
والإِخبار عن بعض الأزواج والأولاد بأنهم عدوٌّ يجوز أن يحمل على الحقيقة فإن بعضهم قد يضمر عداوة لزوجه وبعضهم لأبويه من جراء المعاملة بما لا يروق عنده مع خباثة في النفس وسوء تفكير فيصير عدوًّا لمن حقه أن يكون له صديقاً ، ويكثر أن تأتي هذه العداوة من اختلاف الدين ومن الانتماء إلى الأعداء .
ويجوز أن يكون على معنى التشبيه البليغ ، أي كالعدوّ في المعاملة بما هو من شأن معاملة الأعداء كما قيل في المَثَل : يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدوّ لعدوّه . وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
وعُطف على قوله : { فاحذروهم } جملة { وإن تعفوا وتصفحوا } إلى آخرها عَطف الاحتراس لأنه إذا كان العفو مطلوباً محبوباً إلى الله تعالى وهو لا يكون إلا بعد حصول الذنب فإن عدم المؤاخذة على مجرد ظنّ العداوة أجدر بالطلب ففهم النهي عن معاملة الأزواج والأبناء معاملةَ الأعداء لأجل إيجاس العداوة ، بل المقصود من التحذير التوقِّي وأخذُ الحيطة لابتداء المؤاخذة ، ولذلك قيل : « الحزم سوء الظن بالناس » ، أي لكن دون أن يبنى على ذلك الظن معاملة من صدر منه ما ظننت به قال تعالى : { إن بعض الظن إثم } [ الحجرات : 12 ] وقال : { أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } [ الحجرات : 6 ] .
والعفو : ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها . ولو مع توبيخ .
والصفح : الإِعراض عن المذنب ، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ .
والغفر : ستر الذنب وعدم إشاعته .
والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث . وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم ، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإِرادة عموم الترغيب في العفو .
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقاً بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها .
وجملة { فإن الله غفور رحيم } دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر فالتقدير وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم لأن الله غفور رحيم ، أي للذين يغفرون ويرحمون ، وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث .