اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } .

قال ابن عبَّاس : نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده{[56915]} ، فنزلت ، ذكره النحاس .

وحكاه الطَّبريّ عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التَّغابن كلها ب «مكة » إلا هؤلاء الآيات : { يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه ، فقالوا : إلى من تدعنا فيَرقّ فيقيم فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة{[56916]} .

روى الترمذي عن ابن عباس ، وسئل عن هذه الآية قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا للنبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وإذا الناس قد تفقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية{[56917]} .

حديث حسن صحيح .

فصل

قال ابن العربي : هذا يبين وجه العداوة ، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته ، وإنما كان عدواً بفعله ، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة .

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ فِي طريقِ الإيمانِ ، فقَال لَهُ : أتُؤمِنُ وتَذَرُ دينكَ ودينَ أهْلكَ ومالكَ فخالفه فآمن ، ثم قعد له على طريق الهجرة ، فقال له : أتهاجر وتترك أهلك فَخالفَهُ وهاجَرَ ، ثُمَّ قَعدَ لَهُ على طريقِ الجهادِ ، فقَالَ لَهُ : أتُجَاهدُ فتَقْتُلَ نَفْسَك فتنُكَحَ نِسَاؤكَ ويُقسَّم مالك فخَالفَهُ فَجَاهَدَ فقُتِلَ فحقٌّ على اللَّهِ أن يُدْخِله الجَنَّة »{[56918]} .

وقعود الشَّيطان يكون بوجهين{[56919]} :

أحدهما : أن يكون بالوسوسة .

والثاني : أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب ، فقال تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }[ فصلت : 25 ] ، وفي حكمة عيسى - عليه الصلاة والسلام - : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : «تَعِسَ عَبدُ الدِّينارِ ، تَعِسَ عبدُ الدِّرهَمِ ، تعِسَ عبْدُ الخَميصَةِ ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيفَة »{[56920]} ، ولا دَنَاءَةَ أعْظَمُ مِنْ عبادَة الدِّينار والدِّرهم ، ولا همَّة أخسُّ من همَّة تَرْتَفِعُ بثَوبٍ جَديدٍ .

واعلم أن قوله : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } يدخل فيه الذكر والأنثى ، فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدوّاً له ، كذلك المرأة يكون زوجها عدوّاً لها بهذا المعنى{[56921]} .

قوله : { فاحذروهم } . أي : فاحذروهم على أنفسكم ، والحذر على النفس يكون بوجهين : إما لضرر في البدنِ ، أو لضررٍ في الدين ، وضرر البدن يتعلق بالدنيا ، وضرر الدين يتعلق بالآخرة ، فحذر الله تعالى العبد من ذلك{[56922]} .

قال ابن الخطيب{[56923]} : وقيل : أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جملة ما تقع به الفتنة ، وهذا عام يعم جميع الأولاد ، فإن الإنسان مفتون بولده ، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله كغصب مال الغير وغيره .

قوله : { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

روى الطَّبري عن عكرمة في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } . قال : كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أهله : أين تذهب وتدعنا ؟ .

قال : فإذا أسلم وفَقُهَ قال : لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن . قال : فأنزل الله - عز وجل - { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }{[56924]} .

وقال مجاهد في هذه الآية : ما عادوهم في الدنيا ، ولكن حملتهم مودتهم لهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم{[56925]} .

والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد ، وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم{[56926]} .


[56915]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/39).
[56916]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/117) عن عطاء بن يسار.
[56917]:أخرجه الترمذي (5/391) رقم (3317) عن ابن عباس. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[56918]:تقدم تخريجه.
[56919]:ينظر: القرطبي (18/93).
[56920]:أخرجه البخاري (11/257) كتاب الرقاق، باب: ما يتقى من فتنة المال حديث (6435) من حديث أبي هريرة.
[56921]:ينظر: القرطبي 18/94.
[56922]:ينظر: السابق.
[56923]:ينظر: التفسير الكبير 30/25.
[56924]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/117) عن عكرمة.
[56925]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/117) عن مجاهد.
[56926]:لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.