السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم } أي : وإن أظهرن غاية المودة { وأولادكم } أي : وإن أظهروا غاية الشفقة { عدواً لكم } فقال ابن عباس : نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده فنزلت ذكره النحاس ، وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه ، وقالوا : إلى من تدعنا فيرق فيقيم ، فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة .

وروى الترمذي عن ابن عباس وسئل عن هذه الآية قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة ، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد تفقهوا في الدين ، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، حديث حسن صحيح .

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرق الإيمان فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له : أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر ، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل ، فحق على الله أن يدخله الجنة » .

وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة ، والثاني : أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال تعالى : { وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } [ فصلت : 25 ] وفي حكمة عيسى عليه الصلاة والسلام : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً . وقال عليه الصلاة والسلام : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد القطيفة » ولا دناءة أعظم من دناءة الدينار والدرهم ، ولا أخس من همة ترتفع بثوب جديد ويدخل في قوله تعالى : { إن من أزواجكم } الذكر والأنثى ، فكما أن الرجل تكون زوجته عدواً له كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها بهذا المعنى { فاحذروهم } أي : أن تطيعوهم في التخلف عن الخير ، ولا تأمنوا غوائلهم { وإن تعفوا } أي : توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك ، فإن من طبع على شيء لا يرجع عنه وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه تعالى لئلا يكون سبباً للذم المنهي عنه { وتصفحوا } أي : بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان { وتغفروا } أي : بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز { فإن الله } أي : الجامع لصفات الكمال { غفور } أي : بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثارها جزاء لكم على غفرانكم لهم ، وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم { رحيم } فيكرمكم بعد ذلك الستر بالإنعام فتخلقوا بأخلاقه تعالى يزدكم من فضله .