{ 45 - 49 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ْ } أي : طائفة من الكفار تقاتلكم .
{ فَاثْبُتُوا ْ } لقتالها ، واستعملوا الصبر وحبس النفس على هذه الطاعة الكبيرة ، التي عاقبتها العز والنصر .
واستعينوا على ذلك بالإكثار من ذكر اللّه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ْ } أي : تدركون ما تطلبون من الانتصار على أعدائكم ، فالصبر والثبات والإكثار من ذكر اللّه من أكبر الأسباب للنصر .
وبعد هذا التذكير النافع ، والتصوير المؤثر لأحداث غزوة بدر ، وجه - سبحانه - في هذه السورة إلى المؤمنين النداء السادس والأخير ، حيث أمرهم بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالمداومة على ذكره وطاعته . . ونهاهم عن التنازع والاختلاف فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا . . . مَعَ الصابرين } .
وقوله : { لَقِيتُمْ } من اللقاء بمعنى المقابلة والمواجهة ، ويغلب استعماله في لقاء القتال وهو المراد هنا .
وقوله : { فِئَةً } أى : جماعة . مشتقة من الفئ بمعنى الرجوع ، لأن بعضهم يرجع إلى بعض .
والمراد بها هنا : جماعة المقاتلين من الكافرين وأشباههم .
والمتتبع لاستعمال القرآن لهذه الكلمة ، يراه يستعملها - في الأعم الأغلب - في الجماعة المقاتلة أو الناصرة أو ما يشبه ذلك .
قال - تعالى - : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله . . . } وقال - تعالى - : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ . . . } وقال - تعالى - : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالله حق الإِيمان ، { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } أى : حاربتم جماعة من أعدائكم ، فاثبتوا لقتالهم وأغلظوا عليهم في النزال ، ولا تولوهم الأدبار ، { فاثْبُتُواْ واذكروا الله كَثِيراً } لا سيما في مواطن الحرب ، فإن ذكر الله عن طريق القلب واللسان من أعظم وسائل النصر : لأن المؤمن متى استحضر عظمه الله في قلبه لا تهوله قوة عدوه ، ولا تخيفه كثرته . .
وقوله { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } أى : لعلكم تظفرون بمرادكم من النصر وحسن الثواب ، متى فعلتم ذلك عن إخلاص .
هذا تعليم الله{[13037]} عباده المؤمنين آداب اللقاء ، وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء ، [ فقال ]{[13038]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا }
ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال : " يا أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا{[13039]} واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " . ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " اللهم ، مُنزل الكتاب ، ومُجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم " {[13040]}
وقال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية
فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن أجلبوا{[13041]} وضجوا{[13042]} فعليكم بالصمت{[13043]}
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا أمية بن بِسْطام ، حدثنا معتمر بن سليمان ، حدثنا ثابت بن زيد ، عن رجل ، عن زيد بن أرقم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن ، وعند الزَّحف ، وعند الجنازة " {[13044]}
وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله تعالى : " إن عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه{[13045]} أي : لا يشغله ذلك الحال عن ذكرى ودعائي واستعانتي .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في هذه الآية ، قال : افترض{[13046]} الله ذكره عند أشغل ما تكونون{[13047]} عند الضراب بالسيوف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُريج ، عن عطاء قال : وجب الإنصات والذكر عند الزحف ، ثم تلا هذه الآية ، قلت : يجهرون بالذكر ؟ قال : نعم .
وقال أيضًا : قُرئ علي يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش{[13048]} عن يزيد بن قوذر ، عن كعب الأحبار قال : ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال ، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قال الشاعر : ذكرتك والخَطى يخطرُ بَيْنَنَا *** وَقَد نَهَلَتْ فِينَا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
وقال عنترة : {[13049]}
ولَقَد ذَكَرْتُك والرِّمَاحُ شَوَاجِرٌ *** فِينَا وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُر منْ دَمِي [ فوددت تقبيل السيوف لأنها *** لمعت كبارق ثغرك المتبسم ]{[13050]}
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة } حاربتم جماعة ولم يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، واللقاء مما غلب في القتال . { فاثبُتوا } للقائهم . { واذكروا الله كثيرا } في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره . { لعلكم تفلحون } تظهرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره فارغ البال واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال .