البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَةٗ فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (45)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } أي فئة كافرة حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء اسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف وفي الحديث : « لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا » وأمرهم بذكره تعالى كثيراً في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحسّ { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه مثل السكر لهول الملتقى فأمر المؤمنين بذكر الله في هذه الحالة العظيمة وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشقّ الأوقات عليهم وأشدّها لم ينسوا مَحبوبَهم وأكثروا في ذلك فقال بعضهم :

ذكرت سليمى وحرّ الوغى *** كقلبي ساعة فارقتها

وأبصرت بين القنا قدّها *** وقد ملن نحوي فعانقتها

قال قتادة : افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف ، وقال الزمخشري : فيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون همّاً وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره ، وذكر أن الثبات وذكر الله سببا الفلاح وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب ، والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان والظاهر أن لا يعين ذكر ، وقيل هو قول المجاهدين : الله أكبر الله أكبر عند لقاء الكفار ، وقيل الدعاء عليهم : اللهم اخذلهم اللهم دمرهم وشبهه ، وقيل دعاء المؤمنين لأنفسهم بالنصر والظفر والتثبيت كما فعل قوم طالوت فقالوا { ربنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } وقيل : حم لا ينصرون وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء ، وقال محمد بن كعب : لو رخص ترك الذكر لرخص في الحرب ولذكرنا حيث أمر بالصمت ثم قيل له : واذكر ربك كثيراً ، وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً إلا إن كان من الجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به لأنه يفت في أعضاد الكفار وفي سنن أبي داود كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة ، وقال ابن عباس : يكره التلثم عند القتال .